رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"كما لو أننى فى غرفة معتمة".. خمس شعراء عالميين كتبوا انتحارهم فى قصائدهم

غلاف
غلاف

في كتابه الملاذ الأخير والصادر حديثًا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة كتب الشاعر والمترجم الحسين خضيري عن تجربة الشعراء في كتابة موتهم قبل انتحارهم.

وفي مقدمته التي صدرها للكتاب يقول: "لجأ كثيرٌ مِنَ الشُّعراء إلى الانتحار، ويَحفَلُ كِتابُ الانتحارِ بالعديدِ والعديدِ من أسمائِهم على اختلاف ألوانِهم وجنسياتِهم ومشارِبِهم، لقد زيَّنوا لأنفُسِهِم دروبَ الموتِ طلبًا للسكينَةِ التي لم تُدرِكهُم في الحياةِ التي لم تَحفَلْ بهم.

تعدَّدتْ واختلفتْ دواعي انتحارِ الشُّعراءِ أيضًا، فقد تَدَفَّقَتْ تياراتُ الأمراضِ العقليةِ والنفسيةِ والجِراحِ العاطفيةِ والعائليةِ، وربَّما الوحدةُ وازديادُ الشعورِ بالعُزلَةِ لتَصُبَّ كلُّها معًا في قلوبِ هؤلاءِ الذين لم تَعُدْ قلوبُهم تتسعُ لمزيدٍ من المَسيرِ في دروبِ الحياة.

تَزخَرُ القائمةُ بأسماءٍ شهيرةٍ، أمثالِ آن سكستون وسيلفيا بلاث وجون ديفيدسون وآدم جوردون ومارينا ساتيفا وسارة تيسديل وتوماس لوفيل بيدوز وجون بيريمان وديبورا ديجيس وغيرِهم من الشُّعراءِ الكِبار.

الذي أودُّ قولَه إننا لا نناقِشُ أسبابَ انتحارِهم ولا ملابَساتِها ولكنَّ المُلاحَظَ أنَّ هؤلاءِ جميعًا كتبوا موتَهم أو بالأحرى أنبَأوا عنه ووَشَتْ به قصائدُهم.

ديبورا لي سوجارباكار

ديبورا لي سوجارباكار وُلدت في السادس من أكتوبر عام 1950م في جيفرسون سيتي بولاية ميسوري، نالت درجة البكالوريوس في الفن من جامعة كاليفورنيا عام 1976م، نالت درجة الماجستير في الشعر.

قامتْ بتدريس الشعر وفنِّ الكتابة الإبداعية في جامعاتِ نيويورك وكولومبيا، كتبت أربعةَ دواوين شعرية، نالت جائزة ديلمور شوارتز للشِّعر ونالتْ مكافأةَ كنجسلي تافتس للشِّعرِ أرفَعَ جائزة شعرية عن كتابِها "موسيقى صاخبة" ونالتْ جائزةَ بوشكارت مرتين.

شاعرة شهيرة، تنبثق أشعارها من مأساتها الخاصّة، انتحرت في العاشر من أبريل، حين ألقتْ بنفسِها مِنْ مُدَرَّجاتِ ستاد ماك جيرك في العاشر من أبريل عام 2009م.

تقول في قصيدتها "حليب"

 

حليب

هذا الصَّباحُ

يبدو الضَّوءُ أصغرَ

كما لو أنني نِصفُ مُستيقظة في حُلم

أو في غُرفَةٍ مُعتِمَة

في نوفمبر آخَر 

أيقظني قُبَيلَ الفَجرِ أبي

أرادَ صُحبةً قبل تَجَوِّلِه في مستشفاه

نَفَخَ في راحتي

منحني قبلةً دافئةً 

بعد ارتداءِ ملابسي بين الأغطية

ثم وَقَفنا بجوارِ المَوقِد 

بينا يُسخّنُ لي الحَليبَ

صَعَدتْ طبقةٌ من الحليب إلى السَّطحِ

أسماها قميصَ بائِعِ الحليب

وغَمَسَ أصابِعَه

ما أشبَهَ ما بدا بثوبِ زفاف 

حِينئِذٍ 

 

أو ثوبِ نومٍ نسائيٍ

ذاك الذي تَنزَعُه 

قُبَيلَ حضورِ الطَّبيب 

وأوَّلُ شئٍ تراه 

عِندَ صَحوِها.

يوليا فالديميروفنا درونينا

شاعرةٌ سوفيتية وُلِدت في العاشر من مايو 1924م، كتبت باللغة الروسية، كانت ممرضةً وعملتْ في الخدماتِ الطبيةِ أثناءَ الحربِ العالميةِ الثانية، وكتبتْ الشِّعرَ عن نسوةٍ في الحرب.

امتازتْ أشعارُها بالوضوحِ الأخلاقي واعتمدتْ على خبرتِها الحياتية، وشَمَلَتْ المشاركةَ في الحربِ كمصدرٍ للإلهام.

نشأتْ يوليا في موسكو، وكان والدُها مُعلِّمًا للتاريخ وعملتْ والدتُها في مكتبةٍ وأعطتْ دروسًا في الموسيقى.

شرعتْ يوليا في كتابةِ الشِّعرِ وهي ابنةُ الحادية عشرة، وربحتْ إحدى قصائدُها مسابقةً ونُشرتْ في جريدة.

بعد أن تعرَّضَ الإتحادُ السوفييتي للهجومِ من قِبَلِ ألمانيا عام 1941م، التحقتْ يوليا بالصليبِ الأحمرِ وهي في السابعة عشرة من عمرها، وتدرَّبت كممرضةٍ وتطوَّعت في مشفى محلي.

وبعد أن اقتربتْ القواتُ الألمانية من موسكو، أُرسلتْ يوليا للمساعدةِ في بِناء حصن، على مسافة مائةِ كيلو متر من موسكو.

وانفصلتْ عن فريقِها إثر غارةٍ جوية، والتقطَها جنودُ المشاةِ الذين كانوا في حاجةٍ لمساعدةٍ طبية.

لكنَّ فريقَ المشاةِ سرعانَ ما تمَّ تطويقُه من قِبَل الأعداءِ وقضى ثلاثةَ عشرَ يومًا منقطعًا عبر الإقليم المحتَل، وخلالَ هذه الأيام وقعتْ يوليا في حُبِّ قائدِ الكتيبةِ ووصفتْه في العديدِ من قصائدِها.

عادتْ يوليا إلى موسكو في خريف 1941 لكنَّها غادرتْ إلى سيبيريا مع والدِها، كجزءٍ من إجلاءِ المدنيين.

بعد رحيلِ والدِها رحلتْ إلى خاباروسك في أقصى شَرقِ روسيا، حيثُ التحقتْ بمدرسةٍ فنيةٍ للطيران، لكنَّها رغبةً في القتالِ في الجبهةِ الأماميةِ التحقتْ بوحدةٍ للمدفعيةِ كطبيبةٍ عسكريةٍ وأُرسلتْ إلى جبهة بيلاروسيا وعَمِلَتْ إلى جانب زينيدا سامسونوفا "عَمِلَ في الخدماتِ الطبيَّة العسكريةِ أيضًا" الذي لقي حتفه في معركة ونالَ لَقَبَ بَطَلِ الاتحاد السوفيتي.

كتبتْ يوليا بعد ذلك أكثر قصائدِها عاطفيةً "زينكا" عن سامسونوفا.

أُصيبتْ يوليا بجرحٍ في جيدِها إثرَ شَظيَةٍ من قذيفة.

لم تعبأ بجرحِها يوليا وواصلتْ عملَها، ثُمَّ سُرعانَ ما تفاقمتْ حالتُها وبالكادِ تَمَّ إنقاذُها، وكتبتْ أُولى قصائِدِها عن الحربِ في المَشفى، وعادتْ بعد شفائِها إلى موسكو، حيثُ حاولتْ الالتحاقَ بمعهدِ مكسيم جوركي الأدبي، لكنَّ طلبَها قوبِلَ بالرَّفض، لأنَّ كتاباتُها لم تُعد كافية، حينئذٍ عادتْ إلى جبهةِ الحربِ بالقُربِ من إقليم البلطيق، وجُرحتْ ثانيةً وعاودتْ محاولاتِها للتسجيلِ في المعهد الأدبي إلى أن تَمَّ قبولُها.

تزوجتْ زميلَها المحاربَ نيكولاي ستارشينوف عام 1944م وأنجبتْ ابنتَهما إلينا Elena وعاشتْ الأسرةُ في فَقرٍ مُدقع، طبعتْ أوَّلَ كُتُبِها عام 1948م، ثُمَّ أتبعتْه بكتبٍ عديدة، وكتبتْ يوليا القصةَ القصيرةَ أيضًا "أليسكا"، وكتبتْ السيرةَ الذاتية "من ثلاث قمم".

طَلَّقَتْ زوجَها الأوَّلَ وتزوجتْ كاتبَ السيناريو أليكسي كابلر الذي التقتْه عام 1954م.

وظلا سعيدين معًا حتى وفاةِ أليكسي عام 1979م.

كتبتْ يوليا عددًا من القصائدِ لزوجِها.

أثناءَ عَصرِ البريستوريكا تم اختيارُها لنيلِ عُضويةِ الكرملين أثناء انقلابِ أغسطس 1991م.

وأصابَها الإحباطُ حين تفسَّخَ الاتحاد السوفيتي وإعلان تأزُّم نظامه.

انتحرتْ يوليا في الحادي والعشرين من نوفمبر عام 1991م.

دُفنتْ يوليا إلى جوارِ زوجِها أليكسي كابلر في مقبرةِ ستاروكريموسكو.

تقول في قصيدتها "زينكا"

زينكا 

على مقربةٍ من شجرةِ تنوبٍ مكسورةٍ نَرقُد

كيما نترقبُ أوَّلَ ضوءٍ للفجر

تَحْتَ مِعطَفٍ عظيمٍ نتدثَّر

فوقَ الأرضِ الباردةِ الرَّطبة

 

تَدرينَ يا يولكا، نادِرًا ما أكونُ حزينة

لكني أشعرُ بالحزنِ اليومَ

البيتُ، بعيدٌ، وَسَطَ بساتينِ التفَّاح

أُمي العجوز بانتظاري

يبدو لها أن كلَّ شجيرة صغيرةٍ

صنوبرةٌ لابنتِها القلقة.

تدرينَ يا يولكا، نادِرًا ما أكونُ حزينة

لكني أشعرُ بالحزنِ اليومَ

 

بالكادِ لدينا وقتٌ كي نستدفئَ

حين جاءتْ الأوامِرُ بالمَسير

على مقربةٍ مني ثانيةً، في معطفٍ عظيم

الجندية الشقراء سارتْ

دونما غناءٍ، يتحدثُ الناس أو يلوِّنون،

كتيبتُنا مضتْ إلى المعركة

وفوجنا المهزوم 

حوصر في بوليسي 

 

قادتنا زينكا في الهجومِ

عَبَرْنا حَقلًا من الشَّعيرِ أسود

عدونا عَبْرَ قَذْفِ القنابِلِ والخنادق

صَوبَ خنادقِ العدو القاتِلة

 

لم ننشد شهرةً بعد موت

نُريدُ أن نعيشَ بالمجدِ مُكلَّلين

فَلِما تتخلَّلُ الدماءُ الضمادات

وعلى ظهرِها تَضطجِعُ الجنديةُ الشَّقراء

 

 

على أسناني شَددتُ وأنا أُغطي جسدَها 

الساكنَ بمعطفي

في أسىً غنَّتْ رياحُ بيلاروسيا

عن بساتينِ التفَّاحِ النائية في ريازان 

 

تدرين يا زينكا نادِرًا ما أحزنُ

لكني أشعرُ بالحزنِ اليومَ

في البيتِ، بعيدًا، بين بساتينِ التفَّاح

أُمُّك العجوزُ في انتظارِك

 

لي أصدقاءُ ولي حبيبة

لكنَّك ابنتَها الوحيدة

للكوخِ رائحةُ عجينِ الخبزِ والدُّخان

الربيعُ وراءَ البابِ يَغلي

 

السيدةُ العجوزُ في ثوبٍ وردي

أمامَ أيكونةٍ تُضئُ شمعةً

ليسَ بوسعي أن أكتبَ إليها

وأُخبِرَها ألَّا تنتظرك

 

هارولد هارت كرين

 

شاعِرٌ أمريكي وُلد في الحادي والعشرين من يوليو عام1899م، في جاريتسفيل بولاية أوهايو بالولايات المتحدة الأمريكية.

كان والدُه رجلَ أعمالٍ ناجحا في أوهايو اخترعَ شيكولاتة وباع براءَتها قبل أن تشتهر.

واخترعَ أُخرى وكوَّن ثروةً، غيرَ أنَّ والدي كرين كانا دائمي الشجار، وتم الطلاقُ بينهما، وغادرَ كرين مدرستَه العليا إلى نيويورك، تنقَّلَ بين بيوتِ أصدقائِه وما بين نيويورك وكليفلاند، وعمل ككاتبِ إعلاناتٍ وعمل في مصنعِ والدِه.

تشي خطاباتُ كرين بأنَّه اعتبرَ نيويورك موطنَه، وكتبَ مُعظمَ شعرِه هناك. 

كتبَ الشِّعرَ الحديثَ واستلهمَ شِعرَه من ت. إس. إليوت، أكثرُ أعمالِه تَطَلُّعًا "الجسر" الذي امتازَ بالرَّمزيَّةِ المُعَقَّدة واستخدمَ فيه جسرَ بروكلين بنيويورك رمزًا للحياةِ الحديثةِ في الولايات المتحدة.

وأبرَزَ في قصيدةِ الجِسرِ شخصياتٍ أسطوريةً من التاريخِ الأمريكي في واقعِ الاختراعاتِ الحديثة.

سعى كرين لأن يكتبَ القصيدةَ الملحميةَ في "الأرض المفقودة" التي عبَّرتْ عن إيجابيةٍ أكثرَ في الرؤيةِ الحديثةِ للثقافةِ المدنيةِ أكثرَ من تلك التي وجدَها في شِعرِ إليوت.

ولكرين ديوانٌ بعنوان "مبانٍ بيضاء" 1926م.

زارَ كرين مكسيكو عام 31 وأدمنَ الخمورَ وعانى نوباتٍ من الاكتئاب، وانتحرَ في السابع والعشرين من أبريل عام 1932م. 

يقول كرين في قصيدته "منفى"

 

منفى

ومذ مَضَتْ يداك

ما صافحتْ يديَّ بهجةٌ

لا ولا ضَحِكَتْ شفاهي 

هي المسافةُ بيني وبينك 

تزدادُ صمتًا، كمحارةٍ منبسطة.

 

ويبقى الحُبُّ رَغمَ البُعدِ والوِحدَة

ويَعلَقُ بالقلبِ ليلًا جناحا حمامَة

وفَيضُ عَطفٍ بي يَجيش

وحبةُ القلبِ تَزدادُ ألَقًا

والحجر الأزرق مهذَّبٌ مصقول

، في الخاتم الثلاثي الأحجار، 

بَلِيّ وأكثرَ إشراقًا أضحى.

خوف

كُلُّ شئٍ على ما يُرامُ، يقولُ الضَّيفُ

وخشبُ المدفأة مشرقًا يتوهَّج

دافئٌ هو الطعامُ ذو رائحةٍ فاتحةٍ للشهيَّة

لكنَّما للَّيلَ يلعق النافذة.

 

ساعدوني لنضعَ الأخشابَ في المدفأة   

لا يا أصدقاء! ليس هذا مُخيفًا..

لكنْ أوقفوني قليلًا أسمعُ أمنياتٍ في مكانٍ ما

واللَّيلُ يلعقُ النافذة.

 

ماريّا تيريزا دي لاس ميرسيديس ويلمز ونت

ماريّا تيريزا دي لاس ميرسيديس ويلمز ونت، ولدتْ في فينيا ديل مار بشيلي في الثامن من سبتمبر عام 1893م كاتبة وشاعرة تشيلية كتبت باسمٍ مستعار تيبال وتيريزا دي لا كروز، كان لها سبعُ شقيقات، تعلمتْ على يدي مربيةِ أطفال، وتلقتْ تعليمًا خاصًّا على أيدي معلميها، تزوجتْ من بالماسيدا فالديس في سِنِّ السابعة عشر ضد إرادة أسرتِها ورُزِقا بطفلتين.

التحقتْ بالحركةِ النسائية والنقابية والماسونية، استخدمتْ اسم تيبال Tebal حين بدأت نشرَ أعمالِها في صحيفة إيكيكى Iquique. 

بعد عودةِ زوجِها إلى سانتياجو اكتشفَ علاقتَها مع ابنِ عمه، فعقدتْ أسرتُه محكمةً أُسَرِيَّةً قضتْ بمعاقبتِها بالإقامة الجبرية في دير دي لا بيرسيوسا سانجر 

وكتبتْ يومياتِها هنا وأصابَها الإحباطُ وارتكبتْ أوَّلَ محاولةِ انتحارٍ في التاسع والعشرين من مارس 1916م.

هربتْ ماريّا من الدير إلى بوينس آيرس، وكان لدوائرِها الثقافية المنفتحةِ آثارُها الإيجابيةُ عليها وتعرَّفتْ على أُدباء مثل فيكتوريا أوكامبو وجيورج بورجيس وبيلجرينا باستورينو التي كانت تُنادي بمساواةِ المرأةِ بالرَّجل.

في السنواتِ التالية نشرتْ كتابَها "سكونٌ عاطفي" أتبعتْه بكتابِ "الزوايا الثلاث" حيث تحرَّتْ الإثارةَ الجنسية والروحية.

وبَّخ المجتمعُ التشيلي الكاتباتِ التشيلياتِ وأسكتهنَّ لعدمِ ثقتِه في المرأة التي تمتهنُ العملَ الفكري، فُقدتْ أعمالُ هؤلاء النسوة في معظم الأحايين، إلى الأبد، بعد موتِهن، وحُذفتْ أسماؤهن من تاريخِ الأدب، وتُعد تيريزا واحدةً من أكثرِ النساء إثارةً للجدل وتأثيرًا من الناحيةِ الأدبية، في شيلي، أوائل القرن العشرين.

رغم أن كُتَّابًا عظماءَ امتدحوا القيمةَ الفائقةَ لأشعارِ تيريزا ويلمز مونت، مثل خوان رامون جيمينيز فإن القليلَ من أعمالِها قد نُشِر.

بعد أن ارتكبَ أحدُ المعجبين ويُدعى هوراسيو راموز ميخا الانتحارَ في منزلِها، غادرتْ إلى نيويورك أثناءَ الحربِ العالمية الأُولى ولكن بعد اتهامِها بالتجسُّسِ لصالحِ ألمانيا تم نفيُها إلى أسبانيا وهناك أضحتْ ملهمةَ الشاعر خوليو روميرو دي توريس الذي قدَّمَها لكتَّابٍ مثل جوميز دي لا سيرنا وجوميز كاريّو في مدريد، واستخدمتْ اسمًا مستعارًا "تيريزا دي لا كروز" وأصدرت كتابين.

سافرتْ ماريّا إلى لندن وباريس ولكنَّها أقامتْ في مدريد، والتأمَ شملُها مع بناتِها في باريس عام 1922 بعد خمسِ سنواتٍ من الجَهدِ المُضني لوالدِها الدبلوماسي، ومع ذلك فإن آلام فراقِها لهن حينَ عُدن إلى شيلي قادتها إلى اكتئابٍ مرير، مما قادها في الرابع والعشرين من ديسمبر عام 1921 إلى الانتحار.

تقول ماريا في قصيدتها "يوميات"

هذه يوميَّاتي.

أكثرَ رقةً 

تصيرُ وردةُ الموتِ العريضة

 تذوبُ في سائلٍ تحتَ الأرضِ

 وتفتحُ لوتس الحُبِّ

 بسحرِ عينٍ غريبةٍ جليةٍ في الأُفق.

إنها يومياتي

 عاريةٌ أنا على حينِ غرَّة

 أثورُ على كلِّ ما قد تأسَّسَ،

عظيمةٌ أمام الوَهَن

 صغيرةٌ أمام اللانهائية.. عاطفيةٌ واهنة.

ضجرٌ عاطفي

1

خافتٌ ضوءُ المصباح

 قُربَ عزلةِ البنفسج

 يَخفتُ فوقَ المِنضَدة.

تأخذُ الأغراضُ نبرةَ السيرِ أثناءَ النومِ لحلمٍ عليل

 كما لو أنَّ يدًا مسلولةً مسَّدتْ البيئة

 مودِعةً فيها فتورَها الأرستقراطي.

جرسٌ مُضجرٌ يعيدُ الساعاتِ 

ويُفهمني أنِّي أحيا

 ويُذَكِّرُني أيضًا بأنِّي أُعاني.

من أمراضٍ نادرةٍ 

 تؤذيني بعقاقير

الأمراض التي تحثُّني على العيشِ بقلبٍ مختلفٍ

 لأجعلَ مهمةَ المشاعرِ القاسية

حيةً في نفسي.

كعطشانٍ للماءِ يتوق

 أحِنُّ إلى أُذني تُصغي لصوتٍ واعدٍ

 مثيرٍ 

عَذبٍ 

بالنسبة لي

 ليدِ طفلٍ أحِنُّ

 على بؤبؤ عيني

 التي أنهكَها السُّهد

 ترقدُ

 وتُهدّئُ روحيَ الثائرةَ المغامرة.

هكذا أودُّ أن أموتَ

 كضوءِ مصباحٍ على أشياء

 في عذوبةٍ يمتدُّ وظلالٍ مرتعشة.

 

2- 

القبَّعاتُ تمنحني انطباعَ رؤوسٍ مقطوعةٍ متصلِّبة

 وهذي الأعنةُ الملوَّنةُ 

تبدو لي كرؤوسٍ مزقتْها يدٌ متوحشة

 والتي ما يزالُ لها وريدٌ دامٍ.

ليس بوسعي رؤيةَ زوجٍ من القفازاتِ 

دون تخيُلِها بشرةً أيدٍ جافَّة

 على تلكِ الصفراء

 أرى شيئًا مقززًا يبدأ في التعفن.

أكرهُ الملابِسَ المَنسِيَّةَ فوقَ الفِراش

 ثمَّ تماثلٌ بينَها وبينَ ملابِسِ الموتى

 آنذاك.

ذات مرةٍ رأيتُ فتاةً مجنونةً في مؤسسةٍ

 كان ذلك 

مثلَ مشاهدةِ خِرقةٍ بنفسجيةٍ في نَعْش.

***

حتى في نفسي، حينَ أُودِعُها أحزانًا صغيرةً

يضئُ وجهيَ حينَ أبتسم...

ألعنُ إيماءةَ أذرعي في أسلوبِها المُؤلم، في مِثلِ هذا التناغُم.

حيث إننا قد نقولُ أنَّها ترتفعُ من قوةٍ غريبة...

آه قرنٌ من الغرور الإنساني يحتضر!

زرعتُ قطعةً من التربةِ الخِصبة، حيثُ بوسعِك أن تبسطَ

أولَ بذرةٍ مُقَدَّرَةٍ للأرضِ الموعودة.

 

ماريا ميرسيديس كارانزا

وُلدت في بوجوتا، كولومبيا عام 1945م، شاعرة وصحافية وناقدة أدبية.

هي إحدى أربعة أطفال، للشاعر إدواردو كارانزا، انتقلوا إلى أسبانيا حيث عمل والدُها كملحقٍ ثقافيٍ في السفارة الكولومبية في مدريد.

عاشت ماريّا هناك من سن السادسة إلى الثالثة عشرة، وتحت تأثيرات والدها الفكرية، وخالتها الشاعرة إليسا موخيكا التي عاشت في أسبانيا إبَّان تلك الفترة. 

"بأساطيرهم وقصصهم نُسجت خرافةُ طفولتي وبها اكتشفت قوةَ الكلمة" هذا ما قالته ماريّا في مقابلة.

عادت الأُسرة إلى بوجوتا، كولومبيا عام 1958، حيث عاشتْ الصغيرةُ ماريّا مرسيديس مرحلةً من إعادة التكيفِ في وطنِها الأُم.

تقول ماريّا "حين عدتُ كنتُ ما أزالُ ألهو بألعابي ولم أكُ أدرِ كيف يُولَدُ الأطفال، تركتُ أسبانيا وطفولتي وشعرتُ بحنين ثقافيٍ رهيب وتحملتُ القرارَ الذي يخصُّ كولومبيا.

درستْ ماريّا الفلسفةَ والأدبَ في أسبانيا في البداية ثمَّ في كولومبيا بجامعة لوس أنديس.

وتخرَّجتْ برسالةٍ عن والدِها تمَّ تقييمُها بأنَّها أفضلُ رسالةٍ عن والدِها إدواردو كارانزا.

كان آخرُ كتبِها يتضمنُ قصائدَ غنائيةً قصيرةً متتالية وقال الشاعرُ ماريو ريفيرو بأنَّ هذا الكتابَ رسالةُ حربٍ موجعةٌ حيث نجحتْ الشاعرةُ بحكمةٍ في بناءِ تعبيرٍ جوهريٍ عن الحقائقِ الأساسيةِ "الشخصُ الهمجي في جماعةٍ مُحاطةٍ بالموت".

روَّجتْ ماريّا لكتاباتِ جوس أسونسيون سيلفا، وعُدَّتْ كتاباتُها كتابةً نسويةً تنادي بمساواةِ المرأةِ بالرجل، لكنّها رفضتْ هذا التصنيف، وكانتْ لها ارتباطاتٌ سياسيةٌ والتحقتْ بحركةِ 19 أبريل حين أصبحتْ اتحاد التاسع عشر الديمقراطي، زوجُها الثاني هو خوان لويس بانيرو، أنهتْ ماريّا حياتها منتحرة.

تقول ماريا في قصيدتها "بجنون أحب الحياة""..

 

بجنون أُحب الحياة

أعلم أنني سأموتُ حيثُ لم أعدْ أُحبُّ شيئًا

سيفنى جسدي والروحُ تخلد

سأغادرُ هذا العالمَ

وما مِن أحدٍ سوف يَذكُرُني

لم أبتدعْ خطيئةً واحدة

لكنني ذُقتُ الفضائلَ كلَّها

أجَّرتُ روحي للرياء

بالكلماتِ ازدحمتُ

بالرموز، بالصمتِ،

للكذبِ استسلمتُ

رجوتُ الأملَ،

عشقتُ الحُبَّ

وذات يومٍ بكلمةِ

وطني نطقتُ 

 

وارتضيتُ الخدعةَ 

كنتُ أُمًّا، مواطنةً، 

ابنةً، صديقةً

رفيقةً، عاشقة

أُؤمن بالحقيقة

اثنان زائد اثنان أربعة

كان يجبُ أن تُولدَ ماريا مرسيديس

كان عليها أن تكبرَ، تُعيدُ إنتاجَ نفسِها وتموت

وهذا الذي أفعله.

أُنموذجُ القرنِ العشرين أنا

وحين يصلُ الخوفُ

أمضي لمشاهدةِ التلفاز

لأُجري حوارًا مع أكاذيبي.

اقرأ ايضًا..

"فجر الضمير".. أحدث إصدارات هيئة الكتاب من ترجمة سليم حسن