رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشمس تغلق أبوابها

علي السباعي
علي السباعي

الشمس تصبغ بغداد بضوئها النارى، نخيل ألوزيرية ناحلٌ طويلٌ مغبرٌ، وجسر الصرافية يمتد طويلًا إلى الضفة الأخرى من دجلة، أعمدة الكهرباء ناحلةً كالحةً كابيةً صدئةً.. وبيوت شارع المغرب بجدرانها الطابوقية المغبرة الألوان. 

كنا نحن طلاب كلية الفنون الجميلة فى المرحلة الأخيرة من قسم المسرح نخرج من قاعاتها بعد أن أدينا آخر امتحان مقرر علينا.. نطوى بجو بغداد الحار جدًا.. تلك الحرارة التــى بدأت تزحف فوق ألوزيرية بجسرها ونخيلها.. لَكَمْ كنا نتجمهرُ على شكل مجاميع تؤدى طقوسًا علَّ الشمـسَ تغلق أبوابها أمام خريف الوداع.. وجدتنى فجأة أحدث زملائى الطــلاب من شدة الحر عن الحر، وأنا أتطلع بيأس إلى فضاءات بغداد الشاسعة بشمس ساطعة:

زملائى كنت أسمع جدتى تردد دائمًا عن الحر:

«تموز ينشف الماء من الكوز، أما آب فالعشـرة الأولى من أيامـه تحرق المسمار بالباب، وفى العشرة الثانية تقلل الأعناب، وتكثر الأرطاب، والعشرة الثالثة بالنهار لهاب وبالليل جلاب، وتفتح مـــن الشتاء باب. أمـا أيلول فتقول جدتى، رحمها الله، امشوا ولا تكيلون».

وأنا منهمك بحديثى وزملائى مصغين لما أقول بانتباه، فإذا بإحدى زميلاتنا تطل علينا من قسم التشكيل، فتح زملائى عيونهم عليها، وبدورى فتحت عينى الجنوبيتين.. وأنا أحدق فى حضورها البهى.. وفــى عينيها البغداديتين دهشة تأخذ بزمـام الوجد إلى وديانها، فصار وجهها الأنيس إلى قلبى أكثر وسامة وجلالًا، ومن ورائها تتكسر أشعة شمس الضحى على بياض وجهها الثلجى كما تتكسر على رءوس موجات دجلة أشعة شمسنا القاسية، ارتخت ملامح وجهها وأصبحتْ أكثر احمرارًا كأنها جلنار الشمال، فاتسعت عيناها مثل صبية ترتجف مــن البرد، كانت زرقة عينيها تحمل عمـق السؤال الذى يطرز بلون البحر، توقفتْ دقات قلبى لحظة.

لحظة ليـس فيها زمن، لأننى كــنت أعشقها بصدق، قالت بصوتٍ واثق وهى توزع نظراتها.. كأنها تقلد حركات بطلة أغنية كاظم الساهر «زيدينى عشقًا»، عندما كانت تفرك يديها وتنفخ فيهما دفئها الجنونى مــن شدة البرد:

أشاه.

بعد أن رمقها الجميع بنظرة مستغربة وابتسامة مجاملة متحيرة، قلت لها فى دهشة وأنا أنظر إليها بتمعن:

ما بالك ترتجفين ونحن فى شهر حزيران؟!

قالت لى بنبرة بريئة من وجهها البغدادى الجميل:

- ألوان قميصك باردة..!