رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العيد وبناء الإنسان المصرى


                                
                                            
عند مجىء الأعياد، أشعر بمزيد من الغربة والاغتراب. خاصة أن أعيادنا ممتزجة بشهوة الطعام، وأنا لا أحب الشهوات التى اعتاد عليها البشر، ويمكن أن تدفعهم إلى سلوكيات بدائية الغرائز، وأنانية، عنيفة الانفعالات، ضد التحضر والحكمة والتعقل.
   منذ أزمنة طويلة، والناس فى بلادنا يحتفلون بعيد "الكحك"، وعيد "الخرفان"، 
و عيد "فسيخ شم النسيم"، وأعياد ومناسبات أخرى كثيرة. وكلها مرتبطة بالأكل.
  ما علاقة الأكل، وحشو المعدة، بالأعياد؟ 
       أنا أختار ماذا يدخل فمى، متى أشاء، كيفما أريد، كل أنواع الوصاية، 
أتمرد عليها، ولا أسمح لها أن تغير مجرى النهر، الذى اخترت السباحة فيه، 
ولا أن تفرض ما يعكنن مزاجى، ويفسد أسلوب تفكيرى، أو يخدش قناعاتى، 
نحتها على جدران الكون، بدمى، وقلمى، وأعصابى، وألمى.
  فى الأعياد والمناسبات، أختفى عن الأنظار، أصمت، أحتمى بوحدتى، 
وهدوء صومعتى، وشدو القصائد، وشجن الذكريات. 
  "الكتابة" هى الشهوة الوحيدة التى أعيش من أجلها، وأنتظر حضورها، وأنا فى كامل أناقتى، ومنتهى جنونى، وقمة عدم انتمائى. 
  الاحتفال بالأعياد المدونة فى الأجندة، لا تهمنى، ولا تعنينى، وليس بإمكانها أن تمنحنى لحظة هدوء أو لحظة تحقق أو لحظة فرح. 
   برمجة الناس على افتعال الفرح، وتأدية طقوس معينة، فى أوقات محددة سلفًا، كما فى الأعياد، يرسخ حضارة المجاميع المتشابهة، ويسهل تعبئتهم فى قوالب جاهزة التركيب. 
  والناس أو معظمهم، فى كل زمان ومكان، يشعرون بالأمان عندما يصبحون ترسًا فى آلة ضخمة، أو جزءًا من قبيلة، أو مجموعة، أو حزب، يفعلون مثلما يفعل أفراد القبيلة، ويفكرون مثلما يفكر الجميع فى المجموعة، ويسرى عليهم ما يسرى على أعضاء الحزب.
    أنا لا أفرق كثيرًا بين الأعياد، والأحزاب. كلاهما يهدف إلى دمغ الناس بختم معين، 
وإلغاء فرديتهم، وبرمجتهم فى جميع مواقف الحياة.
    إن الطقوس الموروثة للاحتفال بالأعياد، وما يرتبط بها من زحام الكبار، ودوشة الأطفال، وهرولة النساء والرجال إلى الشراء، والزيارات المفروضة، وحفلات الزواج والزفاف والخطوبة، والعزايم والهدايا، وأخذ العيدية، جزء لا يتجزأ من عملية التنميط والبرمجة والتعليب والقولبة.
     هل مجرد قدوم يوم أو شهر، له عادات وتقاليد منذ أزمنة سحيقة، كفيل بأن يزرع فينا الفرح، والبهجة، وعناق الحياة عناقًا حقيقيًا؟  
فى الأعياد، أجد التساؤل مُلحًا أكثر، ما الهدف من الحياة فى بلادنا، ذات المركز الأخير فى جودة الحياة؟، أهو الأكل والشرب والشغل وزيارة الأصدقاء والأقارب حاملين معنا الكحك والذبائح والفسيخ والبصل، نشترى الأشياء ونتعامل مع أحدث الأجهزة ونتزوج ونتكاثر، ونتفرج على مسلسلات للاستهلاك، ثم نُزف إلى قبورنا؟  
منذ قرون، وبلادنا تذبح الأضحية، وتأكل الكحك والفسيخ، ولا شىء يُذكر تغير فى ثقافتنا وأفكارنا ومعاييرنا الأخلاقية، كل الذى نفعله- وسوف يفجر كارثة قريبًا- أننا أصبحنا 111 مليون نسمة فى عام 2021. 
أعتقد أن الفرح  الحقيقى، نحن الذين نصنعه بطريقة تفكيرنا، والأهداف التى نشتغل لتحقيقها، والإبداعات التى ننجزها. 
الفرح الحقيقى أبعد ما يكون عن الصخب. الفرح الحقيقى دائمًا ما يأتى مخفيًا، يتسلل إلى مسامات الشعور بنعومة وهدوء وسلاسة. 
فى حفلات الزواج  والزفاف، يبالغ الناس فى استعراض الفرح، لتغطية غياب الفرح الحقيقى، النابع من علاقة ليس قوامها البيع والشراء، ليس فيها طرف أعلى وطرف أدنى، علاقة عادلة، صحية، سوية، لا تبحث فيها المرأة عن واحد ينفق عليها، ولا يبحث فيها الرجل عن واحدة تخدمه وتطيعه وتلبى نداء النكاح الشرعى، متى تعفرتت غريزة نصفه الأسفل، هل يمكن أن يعوض أكل الخرفان وأكل الكحك وأكل الفسيخ، عن عدم العدالة بين العروس والعريس، أو عن الأساس التجارى الذى قامت عليه الزيجة؟ 
تمامًا مثل الإفراط فى استعراض مظاهر وطقوس الدين، لتعويض عدم وجود التدين الحقيقى، والتغطية على "بيزنس" التجارة بالدين. 
 وهل يمكن لأسرة أن تبتهج حين تخرج لشم النسيم، فاذا بها تشم عادم السيارات، الذى أصبح من معالم حياتنا، ولا جهة تتدخل لفعل شىء رادع. ماذا تفعل وزارة البيئة؟
تجىء وتروح الأعياد بطقوسها وأطعمتها، وصخبها، سنوات وراء سنوات، ولم تتحسن أخلاقنا، ولم تقل جرائمنا.
العيد الحقيقى، هو نجاحنا فى كسر الحدود، وتجاوز الخطوط الحمراء، التى تبقينا داخل سجون ثقافة نحن الذين خلقناها وأبقينا عليها، ثقافة متخلفة، عنصرية، "ماشية جنب الحيط"، تستهلك ولا تنتج، تنافق ولا تواجه، ذات معايير للشرف والفضيلة مريضة ومختلة، تخاف النقد لاستئصال الجذور العفنة، وبدلًا من التخلص من صفائح القمامة، تثبتها فى مكانها وترش عليها العطور. 
الأعياد التى تفرح وتبهج وتسعد، هى التى تشتغل على تأسيس مواطن مصرى، جديد، ومواطنة مصرية جديدة، أكثر رقيًا، وتحضرًا، وأقل إنجابًا.
  من الواضح أن هذه الأعياد التى تدعو إلى الفرح الحقيقى، هى شغل “الثورة الثقافية”، فى 30 يونيو 2013، كانت الثورة السياسية، أنقذت مصر من الضياع والخراب والدمار. كان من المفروض أن تبدأ بعدها مباشرة “الثورة الثقافية”، وهذا لم يحدث.
إن مصر، "ثقافيًا" ممتلئة بالطاقات المتميزة،  والمواهب المبدعة، التى تحلم بالتغيير الثقافى، لكنها مهمشة، ومحتجبة، ويائسة ومحبطة. 
أول وأهم شىء، يجب أن يكون فى الأذهان، هو أن هناك فارقًا هائلًا بين تقديم "الأنشطة الثقافية"، وتقديم "الثقافة". إن إقامة المهرجانات والحفلات والمعارض والندوات، هى "أنشطة ثقافية"، وليست "ثقافة". 
تقديم "الثقافة"، هو تغيير المفاهيم والقيم والتوجهات الفكرية، المعششة فى عقولنا منذ قرون، ولا أحد يمسها. وهذا يصب مباشرة، فى بناء الإنسان المصرى، وهو أحد أهم مهام الحكومة الجديدة.  


من بستان قصائدى 
============ 
               
اليوم عند كل الناس "عيد" 
دنيا مبرمجة لاهية من بعيد  
تهز بابى كالمرض الخبيث العنيد    
لكننى محصنة بتجاربى ومناعتى الفطرية
عقلى قد تعاطى المصل الواقى 
وقلبى رغم رقته صامد كالحديد