رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العيد فى قصر الخديو

العيد في قصور الأمراء والملوك. لا شك أنه يختلف كثيرًا عن العيد في أي مكان آخر. 
يحدثنا الرحالة الإسباني إد واردو تودا الذي وصل إلى الإسكندرية في أبريل عام 1884، حيث بدأ رحلته إلى مصر قنصلًا عامًا لإسبانيا حتى عام 1886، في عهد الخديو توفيق، وفي أعقاب الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، وقد وضع عن تلك الفترة كتابه «عبر وادي النيل» الذي قام بترجمته السيد محمد واصل ونشره المجلس القومي للترجمة عام 2010.
يقول الرحالة عن عيد الأضحى إنه حفل ديني ويدعى «قربان بايرام»، وهو مصطلح تركي يعني عيد الأضحى المبارك. يمكن أن نعتبره كعيد للفصح الإسلامي وهو التضحية بإسحاق على يد أبيه إبراهيم «خليل الله» كما يسميه العرب، التي تتفق ذكراها وذلك العيد، وما يميز ذلك العيد هو التضحية بكبش في كل البيوت الميسورة الحال.
تأتي الأعياد الرسمية التي يبدأها الخديو بعيد الأعياد الدينية، فتفتح أبواب القصر على مصراعيها حتى تستقبل أعيان وموظفي الدولة الذين يأتون كي يجهروا بآيات الإخلاص التي هي هنا– كما في كل مكان- لا تخرج من القلب في أحيان كثيرة، ولا تصمد أمام أي مكروه، 
وقد رأيت بقصر عابدين الاحتفالات الرسمية بعيد الأضحى، فاجتمع منذ ساعات الصباح الأولى في ساحته الواسعة طابور من سلاح المشاة المصري، حاملًا الأعلام يعزف الموسيقى، ووقفت كتيبة من الانكشارية على خيولها لتمنع وصول موجات من البشر إلى سلالم القصر الملكي، وكان دوي المدافع يُسمع في نفس الوقت من أبراج قلعة صلاح الدين ليعلن للحشود المتلهفة بالاتجاه إلى القصر عن حضور عرض السلطات المختلفة والجماعات التي اتجهت لتحية الخديو. 
وكان الاستقبال حافلًا في صالونات القصر. في الساعة الثامنة صباحًا ظهر الخدم بأزيائهم المطرزة بالذهب وصدورها مغطاة بأشكال متقاطعة، والعلماء بعمائمهم الكبيرة الخضراء، وملابسهم الفضفاضة المسدولة، والشيوخ بعباءاتهم البيضاء، وشيوخ القبائل البدوية طوال القامة، أقوياء البنيان، ذوو بشرة سوداء كالأبانوس، نظراتهم عابسة متلألئة، وأيديهم على مقابض خناجرهم.
ثم وصلت الوفود الأجنبية، بعد ذلك الحاخامات اليهود، والبطريرك اليوناني بصحبة الآباء، ورئيس الرهبان الفرنسيسكان، وركب جميعهم عربات أثرية تجرها الخيول لتوصلهم إلى قصر الأمير، ولقد تحسنت مصر كثيرًا من حيث الاستقرار الديني منذ أن فتحها الأتراك، وسادت من جديد التقاليد القديمة التي جعلت ذلك الشعب أكثر تسامحًا على وجه الأرض.
وكانت أفضل ساعات الاستقبال، وأبهى لحظات العيد من نصيب أعضاء السلك الدبلوماسي والقنصلي المعتمدين لدى الخديو، فبدأ وصول العربات التي تقل أعضاء الوفود الأجانب في الساعة العاشرة صباحًا إلى القصر. وكم آلمتني رؤية أولئك التعساء كالنباتات الغريبة في التربة الإفريقية يعانون الحر، ويتصببون عرقًا في أزيائهم المطرزة التي تثقلها الشرائط والصلبان، خرجوا في صف واحد من البهو الذي أعد لهم يتقدمهم عميدهم، ووقف الخديو بصحبة مجلس الوزراء، ويده على سيفه الأحدب والابتسامة تعلو شفتيه يستقبلهم في صالة العرش، ويستمع إلى كلمات التهنئة المختصرة ويجيب بجمل الإتيكيت المعتادة في تلك المناسبات.
وتدين مصر للقوى الأوربية بالكثير من الاضطرابات في الماضي، والأكثر من عوامل خرابها في الحاضر، ولذلك بدت كلمات الاهتمام الحاني على لسان رأس الدولة سخرية للقدر.
كون أولئك الفرسان الخمسة والثلاثين أو الأربعين الذين ينتسبون إلى أطراف الكون الأربعة دائرة حول الخديو، وعندما انتهت كلمات المجاملة دعا الخديو ضيوفه النبلاء للجلوس على الآرائك الواسعة المنتشرة في الصالة المغطاة بنسيج الأطلس الأصفر.
فتح باب بعد قليل في صدر حجرة من الحجرات وخرج منه بعض الخدم يرتدون «ستامبولينا» أو سترة سوداء ذات ياقة زرقاء، وأخذوا يقتربون من كل دبلوماسي يقدمون له غليونًا مشتعلًا ومملوءًا بأفضل أنواع التبغ من «لاتاكيا»، وتسمى تلك الغليونات باسم «شيبوك» وهي كثيرة جدًا، وإناء الورقة العطرية عبارة عن أصيص رقيق جدًا تزينه رقائق الذهب، والأنبوب من فروع الياسمين يبلغ مترين من الطول دون مبالغة، أنا المبسم فهو عبارة عن قطعة ثمينة من العنبر في حجم وشكل باذنجانة صغيرة تتصل بالأنبوب عن طريق خاتم ثمين من التركواز والماس، ولم تدهشني معرفة أن كل واحد من هذه الغليونات يكلف ألف شلن.
وراودتني فكرة استخدام قطعة أثاث غالية كهذه لو لم أتخيل الكثير من العرب البؤساء الذين لا بد أن وضعوا أفواههم على نفس المبسم، غير أنني أعترف بخجل لأنني رغم ذلك لم أحرم نفسي من تلك التجربة، فدخنت حتى نفد الدخان الذي يحيوه الشيبوك كله.
كانت رؤية أولئك السادة مضحكة للغاية، أولئك الجادون فيما يخص المرات القليلة التي تسمح لهم وظائفهم الظهور فيها على الملأ، وأفواههم ملتصقة بالأنابيب الطويلة، وكل واحد منهم يتجنب النظر إلى جاره خشية أن يغيب عن جو اللحظة وهو يندفع في قهقهة صاخبة.
بعد ذلك بقليل دخل خدم آخرون بصوات تغطيها مفارش الحرير المطرز بالذهب والأحجار الكريمة، ثم رفعوا المفارش ووضعوها على أكتافهم ليكشفوا فناجين كثيرة من البورسلين الراقي ركب في آنية من الفضة المزخرفة، وهو عمل يتقنه العرب أيما إتقان. ولكن تلك التي قدمها الخديو لضيوفه ذلك اليوم كانت تساوي ثروة رجل مقتدر، فكانت مصنوعة من الذهب الخالص المكفت برقة على شكل غصون تشبه الميداليات الكبيرة من الطلاء الراقي، يحيطها سياج من المجوهرات الفاخرة. وللأسف لم يهد إلينا– مع القهوة الطيبة الرائحة- الفناجين التي قدمت فيها، ورفع الخديو فناجينه مرة أخرى، وربما لم يفكر في أن الفلاحين الذي يعملون في أرضه يموتون في الحقول من الفقر، وأن ثمن واحدة من تلك الجواهر يكفي لإعالة فلاح مسكين وأسرته طوال العمر.
كان طابور الدبلوماسيين الأجانب باهرًا جدًا عند خروجهم، كما كان عند دخولهم، واتجه الجميع حينئذ إلى الحجرات المجاورة التي تخص زوجة الخديو، حيث سلموا لها بطاقات التهاني، ولم تستقبل السيدة الجليلة الأجانب، لكنها لم تستبقهم كثيرًا في البهو، فبعد برهة ظهر رجل أسمر لا شك أنه كان خصيًا لما كان له من لحم كالبطة السمينة وصوت ندي، وأعلن عن أن سيدته تقدر لطف الدبلوماسيين المحترمين، وتطلب منهم قبول فنجان من القهوة والسيجار الورقي، وعند هذا الحد وقفت مظاهر الذوق الشرقي الرفيع راضية تمامًا.