رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

امرأة وحيدة

مرفت يس
مرفت يس

صوت المنبه يعلن السادسة صباحًا، هأنا أستعد لبداية يوم جديد رائع بصحبتها، نحن رفاق منذ ثلاثين عامًا بالضبط، أحضرتنى فى ذلك اليوم من أحد الباعة أثناء قيامها بالتسوق.

كانت تتطلع بعينيها لكل ما فى الفاترينة، تتأمل مشتملاتها قطعة قطعة. كنتُ منزويًا وحيدًا بين أطباق وأكواب ودوارق وآنية تلفت انتباه العابرين، بلا نظرة واحدة إلىّ. فلا أنا فنجان صغير للقهوة، ولا كبير يناسب عشاق الشاى. فى الحقيقة، لست فنجانًا ولا كوبًا أيضًا، غالبًا أخطأ صانعى تشكيلى، فأصبحت أحمل شكلًا مغايرًا، طوال الوقت كنت أحلم بعينين تحدقان بى وتبتسم لى، ويد تنتشلنى منها، وشفتين تلمسانى. 

هذا ما كنت أتوق إليه، وأنتظره كل صباح. دفء يدها وهى تملأنى بالماء مع حبات البن السوداء وتقلب، دونما أى إضافات. 

تلك كانت مهمتى الأولى؛ فى الصباح، تسكب القهوة فى فنجانها، وتجذب كرسيًا أمامى فاتحة نافذة المطبخ.. يدخل شعاع شمس خفيف، يترك ظلًا على وجهها يظهر لمعان عينيها العسليتين.

المهمة الثانية: بعد قيلولة الظهيرة التى تأخذها بعد عودتها من عملها، تشرب فنجانًا آخر، مقربة أنفها منى، تحاوطها أدخنتى تتصاعد على وجهها، تحتضننى بأصابعها وتميل بوجهها الناعم، فتنسدل خصلات شعرها لتغطينى تمامًا.

تتشمم عبق القهوة مصدرة تنهيدة عميقة، ترفع رأسها تسنده على الكرسى للخلف، ويدها المفرودة ممسكة بى على المنضدة أمامها.. تشرد للحظات.. تتلمس شفتيها بما تبقى من بُن فى قاعى وتلعقه بلسانها وتمصمص شفتيها الرقيقتين مصدرة تلك التأوهات التى تصدرها بعد أن تنتهى من سرد يومياتها معى، تقف متثاقلة، تتسند على الكرسى، تضعنى فى حوض الأطباق برفق وتخرج من المطبخ. 

فى العشر سنوات الأخيرة، تثاقلت حركتها، توقفت عن العمل، وشاركتنا المنزل ليلًا إحدى الممرضات، تخلت عن كل عاداتها بالقراءة ومشاهدة التلفاز، باستثناء طقسها المعتاد معى.. سمعتُ الطبيب يأمرها بالتوقف عن شرب القهوة.. ابتسمت، وهى تخبره:

ما فائدة الحياة إذا لم نفعل ما نحب؟!

اليوم صرت وحيدًا من جديد ضمن مخلفات تم التخلص منها بشقتها..!!