رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

غدًا الإثنين

أحمد الخميسى
أحمد الخميسى

وقف على المحطة ينتظر الأتوبيس الساعة نحو الخامسة مساء. راح يفتح رئتيه على وسعهما يسحب الهواء عميقًا ويطرده مغمضًا عينيه. منذ أن خرج إلى المعاش لم يعد يغادر البيت إلا نادرًا، على مشارف السبعين لم تعد قواه تسعفه على السير طويلًا، فأمسى ركوب الأتوبيس ذهابًا إلى وسط البلد وإيابًا نزهة بحد ذاتها، يركب وينزل عند نهاية الخط. يتمشى ليغترف الحياة من الأصوات الضاجة وألوان الملابس وهزات رءوس العابرين، ثم يرجع إلى بيته.

لاح من بعيد مينى باص وتوقف أمامه، مط رقبته، جال ببصره داخل السيارة ليرى إن كان ثمة مقعد شاغر قرب نافذة. قبض على عمود الباب بكفه وشد جسمه صاعدًا. ما إن تحرك الأتوبيس حتى أخذ الهواء المنعش يهب على وجهه. سرح ببصره فى لافتات المحلات وومض اللون الأحمر بخلفية السيارات، وعندما ارتقى الأتوبيس كوبرى، غمرته متعة غريبة من النظر إلى البيوت من أعلى. عند إشارة مرور تمهل الأتوبيس قليلًا فقفز إليه شاب ترنح ثم استعاد توازنه، ودبت فى صدره الهواجس: «أترانى أطفأت شعلة الموقد قبل أن أغادر البيت؟»، وقال لنفسه: «نعم أظن أنى أطفأتها». كان نسيان كل شىء مسئولية زوجته إلى أن توفيت فتعين عليه أن يعتمد على نفسه فى نسيان كل ما كانت تنساه. إن كان موعد سداد فاتورة الكهرباء قد حل أم فاته؟ هل ترك التليفزيون شغالًا ونام أم أغلقه؟. لاحظ ابنه حالته فدعاه للعيش معه لكنه لم يتحمل الإقامة لأكثر من أسبوع، فقد عاملته زوجة ابنه على أنه صبى لطيف إذا عمل بنصائحها ينال قطعة حلوى مكافأة عن شطارته. طاش وجدانه بين مئات الشذرات من الذكريات، إلى أن لمح عن يساره رصيف محل اصطفت عليه دراجات طويلة وقصيرة حزمت عجلاتها بشرائط ملونة. قفزت إلى ذاكرته من مكان بعيد اللحظة التى تمنى فيها أن يقتنى دراجة، كان فى الثامنة من عمره، وخرج ذات يوم إلى الشارع وهناك شاهد الولد حسين يتأرجح فوق دراجة وعم صبحى أبوه يلهث قابضًا على مقعد الدراجة من الخلف يصيح: «بدل. بدل»، والولد يصلصل بجرس صغير بوجه توهج من الفرح. فى الليل كان كلما أوشك على النعاس أفاق ورأى نفسه طائرًا فى الريح فيحس بأنه ساخن من حرارة الأمل. لم تخفت رغبته فى دراجة حتى بعد أن كبر والتحق بعمل فى شركة، لكنه تردد: «موظف محترم على دراجة؟ لا.. لآ». بلغ الأتوبيس نهاية الخط.. نزل متأنيًا درجة فدرجة. وقف فى الشارع وهو يثنى ركبتيه ويفردهما عدة مرات. ارتقى الرصيف وبدأ يتمشى. أحس الفرحة من الحركة حوله ومن الصيحات العالية، وفجأة دبت فى صدره الهواجس: «هل أطفأت نور الصالة؟»، ثم قفزت أمامه صورة دراجة أعجبته من رصيف المحل. ضحك فى سره. حين خرج إلى المعاش قال لنفسه: «ألن يندهش الناس من رجل مسن على دراجة كأنه يتصابى؟».

ظل نحو عشرين دقيقة يروح ويجىء إلى أن شعر بالبرد فقال لنفسه: «يكفى. آن أوان الرجوع إلى البيت». مضى نحو المحطة وهو يهمس لنفسه: «غدًا الإثنين، سأشترى الدراجة التى رأيتها». هز رأسه بانتباه قلق: «غدًا الأحد أم الإثنين؟ اليوم الأحد، إذن غدًا الإثنين». قطع الشارع إلى الجهة الأخرى ليركب عائدًا. اتسعت ضحكته فى سره: «غدًا ستكون لديه تلك الطويلة العفية يقودها فى الشارع، يراه أصحاب محلات البقالة وعمالها الذين يعرفونه، وزينهم فى محل الحلاقة، وربما يخرج حسين من الفرن البلدى ملوحًا له بانشراح: «ألف مبروك يا عم زكى». هل يعقل هذا؟ سيتقدم بها إلى الأمام، قد يرتبك فى البداية خجلًا، وسيتغلب على اضطرابه ويتجه بها إلى الميدان الواسع، بينما تتشقق من حوله جدران الطفولة عن أمنيات موغلة فى الماضى، وهو يواصل التقدم، ويختلس النظر إلى المارة ليعرف ما الذى يثير دهشتهم؟. يتقدم للأمام، يضرب البدال مرة بقدم الطفولة بقوة ونزق، ومرة بقدم الشيخوخة بضعف وتراخ، يتقدم متأرجحًا ما بين زمنين يقطع ما تبقى من طريق. غدًا الإثنين؟ نعم.   

 ٣١ يوليو ٢٠٢٢