رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نطعمها ولا نملكها

رولا عبيد
رولا عبيد

انحسر نشاط المرأة فى فترة الحظر التى صاحبت انتشار فيروس كورونا، فلا جيران تستقبلهم ولا عزائم تنشغل بها أو أحفاد وأبناء يزورونها.. تصحو كل يوم وتجد كل شىء بمكانه كما تركته فى اليوم السابق، لم يكن أمامها إلا توضيب فراشها وأخذ حمامها وتحضير طعامها، وكان منفذها الوحيد إلى العالم هو حوش العمارة، تفتح الشباك وتتأمل الزرع وتستنشق الهواء العليل ثم تقفل الشباك وتعود إلى قراءة كتاب أو متابعة فيلم أو مسلسل.. وذات يوم رأت قطة تمشى فى الحوش، ويبدو أنها ما صدقت أن رأت كائنًا يتحرك أمامها، فبسبست لها على الفور، توقفت القطة ونظرت إلى المرأة بعينين خضراوين خلابتين، وكان وبرها زيتى اللون، دخلت المرأة الشقة بسرعة وأخرجت من الثلاجة بعض السجق وطبقًا وحبلًا، ربطت الطبق بالحبل ووضعت به السجق ودلدلته من الشباك إلى الحوش، فأخذت القطة تأكل بشهية غريبة وكأنها تأكل بعد جوع.. وفى اليوم التالى فى ذات الموعد وجدت القطة تقف تحت شباكها تموء لها، فأعادت الكرة نفسها ولكنها لاحظت قططًا صغيرة بيضاء مبقعة ببقع سوداء تمد رأسها من وراء فتحة فى جدار العمارة المقابلة، فخمنت أنها أبناء القطة الخضراء.. بعد عدة أيام عندما أمنت القطة الخضراء جانبها باتت تسمح لقططها الصغيرة البيضاء باللحاق بها، فكانت الأم تأكل بينما القطط الصغيرة ترضع من حلماتها.. أصبح شغل المرأة الشاغل تأمين الطعام للأم الوالدة ومراقبة القطط الصغار وهى ترضع من أمها ثم تبدأ باللعب والتنطيط بين الزرع، وبعد عدة أيام باتت المرأة تستيقظ على صوت القطط الصغيرة وهى تموء منذ الصباح الباكر تحت شباكها بصحبة أمها القطة، وبعد عدة أيام فوجئت بالقطط الصغيرة تقف تحت شباكها تموء دون أمها القطة، فشعرت المرأة بالشفقة عليها وبالغضب من الأم التى خرجت إلى الشارع وتركتها وراءها للترفيه عن نفسها أو ربما كى تستريح قليلًا من إرضاعها، وما إن همت بفتح الشباك حتى حاولت القطط تسلق الجدار وهى تنظر إليها، ففهمت أنها تتضور جوعًا، فأخذت تسحب الحبل بالطبق كى تملأه والقطط الصغيرة الشقية تتعلق بالحبل وتقع متدحرجة على بعضها البعض فى الحوش ككرات من الثلج، ودهشت المرأة عندما وجدت أن تلك القطط الصغيرة قد أجهزت على ما فى الطبق من طعام.. وفى اليوم التالى كانت القطط تقف بصحبة أمها القطة تحت شباكها تموء، وعندما دلدلت لها الطبق تحلقت القطط الصغيرة حوله تأكل بينما وقفت الأم بعيدة تتأمل قططها وهى تأكل، كانت القطط الصغيرة تضع أيديها على السجق وكأنها خائفة من أن يخطفه أحد منها، عندما انتهت من الطعام وتفرقت وأخذت تسترخى بين أحواض الزرع وهى تلحس وبرها وتلعب مع بعضها البعض اقتربت الأم بهدوء من الطبق وأخذت تأكل، ففهمت المرأة أن القطة الأم لم تكن ترفه عن نفسها أو تستريح وإنما كانت تحاول فطم قططها الصغيرة.. كانت القطط قد شغلت حياتها عن القراءة ومتابعة المسلسلات والأفلام، وبات صباحها يبدأ ما إن تسمع صوت موائها.. وذات يوم بقيت المرأة ممددة فى سريرها على أمل سماع صوت مواء القطط كى تنهض وتحضر لها الطعام، لكن الصمت كان يخيم على الحوش، ففتحت الشباك ونظرت فى كل الاتجاهات ولم تجد لها أثرًا، بسبست لها بأعلى صوتها ولكن دون جدوى، وضعت الطعام فى الطبق ودلدلته بالحبل إلى الحوش على أمل أن تشم القطط الرائحة فتخرج من مخبئها، وأخذت كل حين وآخر تفتح الشباك وتنظر إلى الطبق، لكن الطعام بقى فى الطبق على حاله.. بعد عدة أيام استسلمت لغياب القطط وقطعت الحبل وطلبت من الكناس أن يكنس بواقى الطعام ويرمى الطبق فى الزبالة، وانتابها شعور مؤلم بالفراغ والوحدة يشبه شعور الأم عندما يكبر أبناؤها ويستغنون عن خدماتها بالتدريج. 

وذات يوم، لم تكن تتوقع فيه مجيئها، سمعت مواء قطة ففتحت الشباك ووجدت إحدى هذه القطط البيضاء التى لم تعد صغيرة تموء وهى تنظر إلى شباكها، ففتحت الشباك ورمت لها بعض السجق، تأملتها قليلًا، ثم أقفلت الشباك ثانية دون أن تتفقد إن كانت لا تزال موجودة أم لا، هل أكملت طبقها أم لا، ودون أن تتوقع رؤيتها مجددًا.