رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"الدستور" ينشر مقدمة طه حسين لكتاب "أطفالنا وكيف نسوسهم"

طه حسين
طه حسين

في كتابه مقدمات  طه حسين والصادر عن بيت الحكمة للثقافة، جمع الكاتب الشاب علي قطب، سبعين مقدمة لكتب من تأليف زملاء لطه حسين وتلامذته وأعمال علمية كانت رسائل في الجامعة المصرية لطلاب العميد وطالباته، ومن بين هذه المقدمات، مقدمة طه حسين لكتاب “أطفالنا وكيف نسوسهم ليعقوب فام” وتشير إلى اهتمام طه حسين بالتربية وهي الجانب العملي من الفكر.

“الدستور” تنشر مقدمة طه حسين لكتاب أطفالنا وكيف نسوسهم

ويستهل طه حسين مقدمتهم مشيرا إلى: “لست أدري أي الأمرين أروع روعة وأجمل جمالًا وأبلغ اثرًا في القلوب وأشد ازدهاء للعقول، أهو قصة هؤلاء النفر الذين ملك عليهم أمرهم حب الخير وأرادوا أن تكون حياتهم ونشاطهم وجهودهم مصدر نفع للناس، أم هو هذا الكتاب الذي يُصدر ما بذلوا من جهد وما احتملوا من مشقة وما بلغوا من نجح.. لقد كنت أسمع أنباء هؤلاء النفر بين حين وحين فيروقني ما أسمع وأتمنى لهم نُجحًا وتوفيقًا، ولكن لم أكن أعلم من دقائق أمرهم شيئًا، إنما كنت أقول لنفسي جماعة من المصريين المثقفين الأخيار رأوا حولهم شرا كثيرًا فأرادوا أن يزيلوا منه شيئًا ولو يسيرًا، فما ينبغي إلا أن نحمد سعيهم ونعينهم عليه، ولكن أحدهم يقبل عليَّ ذات يوم ويحمل إلى هذا الكتاب مخطوطًا، فلا أكاد أمضي في قراءته شيئًا حتى يتغير رأيي فيهم وفيما يعملون، وإذا أنا أمضي في القراءة متتبعًا لهذه القصة الرائعة مستمتعًا بما فيها من جمال ساحر باهر لأنه يسير ساذج لا يظهر فيه تكلف ولا عناء؛ وإنما هو شيء سمح يمضي في طريقه هادئًا مُطَّردًا كما يجري الجدول هادئًا مطمئنا وكما تجرى الريح رخاء لا عنف فيها ولا عسر".

ويضيف طه حسين: “كيف لا يعجب المصري الذي يحب وطنه ويضيق بحاله هذه المنكرة ويتمنى أن يراه في حالٍ خير منها، حين يرى هؤلاء النفر المثقفين قد خلا بعضهم إلى بعض كما تعود الشباب المثقفون أن يخلو بعضهم إلى بعض، ولكنهم لم يجتمعوا على ريبة ولم يجتمعوا على عبث أو لهو، ولم يجتمعوا على هذا الفراغ المرئي الثقيل الذي يستعين الشباب عليه بالدعابة والسخف وألوان اللعب البريء أو البغيض، بل لم يجتمعوا ليتحدثوا عن أنفسهم ولا عما يشغلهم من عسير أمورهم ويسيرها ومن جد حياتهم ولعبها ومما يلقون من المصاعب ومما يتاح لهم من النجح، وإنما خلا بعضهم إلى بعض وتحدث بعضهم إلى بعض في هذا البؤس البائس واليأس المنكر والشقاء الشامل والشر الذي يلقونه حين يغدون إلى أعمالهم وحين يروحون إلى دُورهم، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون كيف يطمئن الإنسان إلى الحياة أو تطمئن إليه الحياة، وكيف يستمتع الإنسان بنعيم أو يستعذب لذة من اللذات أو يستخفه أمل من الآمال أو يَزدهيه أربٌ من الآراب وهو لا يغدو من داره إلا رأى شرًّا ولا يروح إلى داره إلا ورأى شرًّا ولا يخطو خطوات ضيقة أو واسعة إلا عثر ببؤس أو يأس أو ألم أو شقاء، أقبل بعضهم على بعض يتساءلون كيف تطيب الحياة للإنسان وهو يراها تعصف بمن حوله من أمثاله الذين خلقوا للنعمة واليسر والرغد والهدوء، ولست أدري أكانوا يذكرون هذا البيت الخالد من شعر أبي العلاء: ولا هطلت على ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلاد، أم لم يكونوا يذكرونه ولكني أحقق أنهم كانوا يجدون في أعماق نفوسهم ودخائل قلوبهم وأثناء ضمائرهم هذا الشعور الذي أشقى أبا العلاء وألهمه هذا البيت الخالد، إلا أنهم لم ينعطفوا على أنفسهم ولم ينحنوا على شعورهم ولم يعكفوا على آلامهم ولم يتعزَّوْا عما كانوا يجدون بنفثة المصدور، يفرجون بها كربهم ويتخففون بها مما يُثقل نفوسهم من الهموم والحسرات.

لم يذهبوا مذهب أبي العلاء الذي لم يجد إلى العمل سبيلًا ففرج عن نفسه ووعظ الناس وحثهم على أن يعملوا، وإنما وجدوا من أنفسهم قدرة متواضعة على العمل، فلم يُبطئوا ولم يستأنوا ولم يترددوا، وإنما شكوا غير طويل ثم استقبلوا أمرهم حازمين عازمين وجدوا في جهادهم حتى أَرْضَوْا أنفسهم وأرضوا من حولهم خلقًا كثيرًا.

 

ويمضي طه حسين في مقدمته: هذا وحده رائع كل الروعة يملأ نفوسنا حين نعرفه أملًا وثقة، ولكن هنا ما هو أروع من ذلك وأدعى إلى الأمل والثقة فهم قد ملكوا أنفسهم وحزموا أمرهم ولم يستجيبوا للعاطفة إلا بعد أن استأمروا العقل فأحسنوا استثماره وشاوروه فأحسنوا مشاورته. ولو قد استجابوا لعواطفهم في غير استشارة للعقل ولا استخارة للرأي لكانوا خليقين أن يطلب كل منهم الخير من طريقه ما وجد إلى طلبه سبيلًا، وما أحسن على طلبه قدرة، ولتفرقت جهودهم كما تتفرق قطرات الغيث في رمال الصحراء المجدبة. ولكنهم فكروا وقدروا وتدبروا وانتهى بهم هذا كله إلى أن يختاروا لعملهم حقلًا رأوا أنهم يستطيعون إن زرعوا فيه أن يحصدوا لا لأنفسهم؛ بل لمواطنيهم بل لفريق قليل من مواطنيهم وشيء خير من لا شيء والترفيه على القلة القليلة خير من إضاعة الحياة والجهود في غير نفع ولا غناء.

 

وهذا الحقل الذي اختاروه هو حقل الطفولة والصبا فهم قد استبانوا أن الشباب الذين تقدمت بهم السن شيئًا قد صاغتهم حياتنا الاجتماعية السيئة صيغة بغيضة ليس من الممكن أو ليس من اليسير تغييرها. فتركوا الشباب والكهول والشيوخ لما كتب عليهم من استقبال الحياة بما فيها من خير وشر، وعمدوا إلى الأطفال والصبية يحاولون أن يصلحوا من أمرهم في حياتهم المادية والنفسية ما استطاعوا إلى الإصلاح سبيلًا. ثم هم بعد ذلك لم يعمدوا إلى هذا الإصلاح مبتكرين أو مرتجلين أو متعجلين وإنما فرضوا على أنفسهم أن يبدءوا العمل من حيث ينبغي أن يبدأ، فخالطوا الأطفال وعاشروهم في الشوارع والأزقة وجعلوا يرفقون بهم ويرقون لهم ويتألفونهم في كثير من الصرامة الباسمة والحزامة الحلوة حتى اطمأن الصبية إليهم واطمأنوا هم إلى الصبية، واتصلت مودة طريفة بين الكبار والصغار أتاحت للكبار أن يدرسوا ويستنبطوا ويرسموا الخطط وينفعوا في أثناء هذا كله على نحوٍ ما، وأتاحت للصغار أن يأنسوا ويطمئنوا ويذوقوا طعم المودة ويحسوا حرارة الصداقة ويشعروا بأن في الحياة شيئًا غير الألم والشقاء، وما ينتج عنهما من فساد الطبع وغلظ الذوق وانحراف الخلق وانطواء النفوس على الخوف والريبة والضغينة والبغضاء.

ثم جعلوا يُسجِّلون ملاحظاتهم ويستخلصون منها نتائجها ويقيسون بعض هذه النتائج إلى بعض، ثم يتدارسون ويتساءلون، ويتفقون آخر الأمر على تحديد العلل ووصف ما ينبغي أن تُعالَج به من طب القلوب والنفوس.

فلما استقام لهم من هذا الجهد الخصب المتصل شيء يشبه أن يكون خطة ونظامًا ما أقروه فيما بينهم ولكن لا على أنه قانون صارم بل على أنه منهج مرن قابل للتغيير والتبديل حين تدعو الحاجة والظروف إلى التغيير والتبديل ثم استقبلوا عملهم فأنشئوا ما أنشئوا من معهد ونظموا ما نظموا من ناد وأصلحوا ما أصلحوا من حياة فريق من أبناء الشعب متواضعين لا يعرف الغرور إليهم سبيلًا ولا تجد الكبرياء إلى نفوسهم منفذًا، وإنما هي الخدمة الخالصة تصدر عن قلوب محبة للخير وعن عقول مدبرة لهذه القلوب.

 

ما تعلمه طه حسين من هذا الكتاب

 

ويلفت طه حسين إلي: وقد أراد الله أن يجزيهم عن جهودهم هذه الطويلة الثقيلة أحسن ما يجزي العاملين المخلصين فأرضاهم عن جهادهم وأرضى الناس عن جهادهم، وأي الناس؛ الصبية الذين خلقوا ليكونوا ابتسامة على ثغر الحياة فأبت الظروف إلا أن تجعلهم عبوسًا وتقطيبًا، أرضاهم الله عن جهادهم وأرضى عنهم تلاميذهم هؤلاء الصغار ولكنهم لا يقنعون بما بلغوا ولا يقفون عند ما حققوا. وأخص ما يمتاز به حب الخير أنه شيء يعرف الناس أوله ولا يعرفون آخره وأن قليله يغري بكثيره، وأخص ما يمتاز به خيار الناس أنهم لا يعرفون في الخير منزلة إلا سَمَتْ نفوسهم إلى منزلة أرقى منها فهم لا يعرفون الهدوء ولا يطمئنون إلى الدعة وهم لا يريحون ولا يستريحون؛ وإنما هم القلقون دائمًا، ساعون دائمًا، طامحون إلى غير مدى. لم يقنعوا إذن بما أتيح لهم من نجح وإنما أرادوا أن يضيفوا إلى نجحهم نجحًا آخر فيضاعفوا الجهد ويتوسعوا فيه من جهة، وأن يقصوا قصتهم على الناس ويعرضوا عليهم ما لاحظوا وما استنبطوا وما عملوا؛ لعل من الناس من يرى في سيرتهم عِوجًا يقومه بالنصح والنقد، وهم أحسن الناس استعدادًا لقبول النصح والانتفاع بالنقد؛ لأنهم لا يبتغون بما يعملون إلا الخير الخالص من كل شائبة. ولعل هذه القصة وهذه الملاحظات أن يقرأها الناس فتثير في بعض النفوس ميلًا إلى أن يذهبوا مذهبهم أو مذهبًا خيرًا من مذهبهم فيكون في ذلك نفع إلى نفع وإصلاح إلى إصلاح. وفي هذه القصة وهذه الملاحظات بعد ذلك علم لمن يريد العلم الخالص. علم يتصل بالحياة الاجتماعية لفريق من صبية المصريين وعلم يتصل بالحياة النفسية لفريق من هؤلاء الصبية أيضًا.

ويختتم طه حسين: “أما أنا فقد قرأت هذا الكتاب فتعلمت منه علمًا كثيرًا ووجدت في قراءته متاعًا أدبيا عظيمًا. وإذا كان هؤلاء النفر من المثقفين الأخيار لا ينتظرون ولا يحبون أن يلقوا من الناس على عملهم جزاء أو شكورًا، فإني أستأذنهم في أن أهدي إليهم أخلص الشكر وأصدقه وأطيب التحية وأذكاها؛ لأنهم تفضلوا فأتاحوا لي قراءة هذا الكتاب وشرفوني حين رَغِبوا إليَّ في أن أقدمه إلى القراء”.