رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سر قديم

هدى العجيمى
هدى العجيمى

طرقت الباب وانتظرت أن يفتح أو يرد علىّ أحد، وانتظرت لبضع دقائق وكأنها دهر، وكانت أصابعى تكاد تتكسر من شدة البرودة والصقيع، وأنفى بدا فى التجمد، ويدى الأخرى تحمل طفلى الملفوف بالبطاطين، فالليلة كانت فريدة، صاحبها طقس بارد وصقيع وغيوم وأمطار تتساقط بغزارة مع البرق والرعد، الذى أحدث جوًا من الرعب.

ومع ذلك كنت مضطرة أن أحمل طفلى الوحيد، ويقود زوجى سيارتنا فى هذا الجو من حدائق القبة إلى حوارى شارع الهرم، ومن شدة لهفتى تركت زوجى فى الشارع يبحث عن مكان يترك فيه السيارة، وهرعت إلى منزل الطبيب وتسلقت السلم مهرولة وراء شفاء طفلى المريض على يد ذلك الطبيب المجهول الذى لم أسمع عنه إلا من طبيب الأطفال، الذى لجأت إليه فى الثانية صباحًا بعد إصابة طفلى بالإسهال المستمر، ووصل به الحال إلى القىء أيضًا، فى نهاية اليوم سمعت نصيحة طبيب الأطفال الذى نصح بالإسراع فورًا إلى ذلك الطبيب الوحيد فى مصر، الذى كان يعالج هذه الحالات المتردية. 

بدأت أطرق الباب فلا يسعفنى أحد، لجأت إلى الطرق العنيف وأنا فى شدة الخجل، فكنا قد وصلنا إلى الساعة الثالثة قبل صلاة الفجر، وأخيرًا فُتحت شراعة الباب وسمعت منها صوتًا يهدئ من روعى ويسأل: 

ما هى الحكاية؟ 

قلت ابنى مريض، وقد أرسلنى الدكتور محمود سالم إليك لمعالجته وإنقاذه. 

افتح الباب من فضلك.

لماذا أفتح؟، أنا لا أقبل إلا الحالات الحرجة فقط. 

دعينى أشاهد وجه طفلك من الشراعة.

يا دكتور افتح الباب من فضلك. 

ها أنا أجد وجه طفلك سليمًا والدماء تجرى فى عروقه. 

وهل كنت تريدنى أن آتى بطفلى ميتًا لكى تعالجه؟ 

افتح الباب من فضلك. 

استمر فى عناده وإصراره على أن الطفل سليم ومعافى، وأنا أستمر فى رجائى: افتح الباب من فضلك.. هنا لم أجد غير لهجة التهديد، «وإلا سوف أذهب لعمل بلاغ ضدك فى قسم الشرطة، بل سوف أتصل الآن بوزير الصحة فى منزله لأخبره برفضك معالجة الطفل المريض»، افتح الباب. 

فتح باب الشقة ودخلت حاملة طفلى لأجد فاجعة لم أتوقعها. 

عدد كبير من الأطفال شبه الموتى، ملقون على موائد العيادة وعلى المقاعد، وبعضهم يفترش الأرض فى حالة صحية يرثى لها، وفى مظهر مؤسف مثل الهياكل العظمية، الشىء الذى يذكرنا بأطفال المجاعات التى تحدث فى بعض المناطق الإفريقية. 

قال: هذه هى حالة الأطفال الذين أقبلهم وقد أصيبوا ببعض الأمراض، ومنها الإسهال المتواصل والقىء وأصبح لديهم جفاف كامل، لكن ابنك ليس كمثلهم الآن.

إذن كنت تريدنى أن آتى بطفلى ميتًا لمعالجته.

أنا أعرف أن هلع الأم وخوفها على طفلها شىء مشروع وإيجابى، لكن ما هذا الذى فعلته سيدتى بالطفل، ما هذه البطاطين وهذه الملابس الثقيلة؟ 

انزعى البطاطين واخلعى عنه كل الملابس الثقيلة. 

كيف يا دكتور أنا أصابعى تجمدت من البرد، ألا تشعر بطقس اليوم؟ 

قلت لك فورًا انزعى كل هذه الملابس الثقيلة عن الطفل، سوف أعطيه حقنة حاليًا. 

بعد أن حقن الطفل واطمأن عليه، طلب أن أشترى محلول الجفاف من الصيدلية فى نفس الحى، ونعود إلى منزلنا لنقدمه للطفل عدة مرات فى اليوم. 

كانت ليلة تمنيت ألا تعود، ولا يمر بمثلها حبيب أو قريب.