رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شبابيك

ثناء حسن
ثناء حسن

فقدت القدرة على الكتابة، اكتشفت ذلك فجأة وأنا أجاهد للاستيقاظ من قيلولة تعيسة. فقدت القدرة على القراءة أيضًا، اكتشفت ذلك من مراقبة ذرات الغبار الجاثمة فوق الكتب فى شراهة. فقدت سنتى الأمامية وعدة قصص جيدة فى منزل رجل لم أكن أحبه، لم أكتشف ذلك حتى الآن، اكتسبت عدة شعيرات بيضاء فى مقدمة رأسى وبعض الوزن الزائد، كتعويض بسيط من السماء عن كل الفقد المتأخر والمفاجئ والتدريجى. 

الفتيات محترفات الفقد أمثالى يحببن الجلوس على القهوة بمفردهن، لايتزوجن فى الغالب، وبمرور الوقت يفقدن الرغبة حتى فى حصر الأشياء التى فقدنها. 

كمحترفة فقد أصيلة، اعتدت أن أفقد القصص التى تومض فى رأسى فجأة؛ أحيانًا يطيرها النعاس منى للأبد. فقدت الكثير من القصص الجيدة بهذه الطريقة. مثلى تمامًا تخاف القصص من الورق الأبيض، وأعين القراء لا ترغب أن يقيدها الحبر لصفحة بيضاء، ولا أن تنغلق عليها دفتا كتاب، تريد أن تظل مجرد خيالات. قصة الأمس التى لن أتذكرها أبدًا أطارها النعاس، حتى القصص الغريبة التى تزورنى فى الأحلام تتبخر من رأسى قبل أن أستيقظ، وما يتبقى منها لا يكون جيدًا بالقدر الكافى لأقصه عليكم. 

أنام فى الحجرة الصغيرة بجوار السلم مع القطة، وفأر صغير مختبئ فى الجدار المقابل. أعرف أنه موجود، أسمع صوت أسنانه الحادة تقرض الخشب عندما تنام القطة، لكننى لم أقابله قط. يبدو أنها بالأمس كانت تمطر، وصوت قطرات المطر المتساقطة بانتظام على إفريز النافذة جعلنى أغفو أنا والقطة، والفأر الذى لم أقابله قط. وأنا أقاوم النعاس كنت أفكر فى النافذة التى تصفعها زخات المطر المتساقط. النافذة الهشة الصامدة فى وجه البرد والمطر بشجاعة فأغفو مطمئنة. أفكر فى النوافذ وفى ولعى الشديد بمراقبتها منذ طفولتى. أفكر أن بعض النوافذ أدفأ من سواها، ونوافذ أصلب من سواها، أفكر أن منزلًا بلا نوافذ مؤكد يخلو من الأطفال. أريد أن أحكى لكم عن النوافذ، فقط النوافذ، عن نافذة الطابق الثالث فى ذلك المنزل الآيل للسقوط، حتى لتوشك عاصفة قوية أن تقتلعه من جذوره. ليحلق بساكنيه كبالونة مجعدة، تلك النافذة التى أراقبها كل يوم من نافذة القطار فى طريق عودتى للمنزل تذكرنى بنافذة قديمة لنا فى منزل مماثل، لا أدرى لماذا كلما مررت بقربها شممت رائحة عشاء ساخن، القليل من شوربة العدس والبصل الأخضر، وامرأة ورجل وثلاثة أطفال يلتفون حوله فى وداعه. الأب يخرج من حافظته ورقة نقدية مهترئة، ويناولها للأم التى تأخذها وهى صامتة، وتخرج منديلًا من صدرها وتضع الورقة بجوار بقية النقود الأكثر اهتراءً، وتعيده إلى صدرها بلهفة. فالمنزل قديم متهالك توشك الرياح على اقتلاعه، والسقف ملىء بالثقوب التى تسرب على رءوسهم مياه الأمطار. الأب سائق أجرة على سيارة قديمة. والأطفال صغار وجائعون، لا يحبون شوربة العدس لكنهم يأكلونها على مضض لأنهم جائعون. ولأن الأم تؤكد لهم أنها ستطهو لهم فى الغد أرزًا ولحمًا مع البطاطس، وأنا صغيرة لم أكن مغرمة بشربة العدس أيضًا، ولكننى اعتدت تناولها لأن أمى كانت تعدنى دائمًا أنها ستطهو لى فى الغد أرزًا ولحمًا مع البطاطس. الأطفال يصدقون كل شىء يسمعونه، ربما لهذا يحبهم الله. نافذة القطار الذى يقلنى إلى المنزل كل مساء لا أشعر خلفها بالدفء أبدًا، فالدفء هو هدية البيوت لأصحابها، حتى لو كان مجرد بيت قديم متهالك يقاوم كل شتاء حتى لا ينهار فوق رءوس أصحابه. الصغار فى منزل النافذة مؤكد ولدان وفتاة. الفتاة حمراء الشعر كأمها وفى الخامسة تقريبًا، والولدان ولد فى الثانية ينام فى حجر أمه دافئًا مطمئنًا بعد أن تناول بيضة مسلوقة. والآخر فى الرابعة يحاول أن يجلس حول صينية العشاء مفرود الظهر كأبيه، ولا يحب البصل الأخضر لأنه يحرق فمه وعينيه، لكنه يأكله كأبيه، لأنه رجل، والرجل يأكل كما يأكل الرجال. 

الفتاة تَزِنّ من أجل حدوتة، والأب يعِدها بواحدة حلوة كعينيها عندما تنهى ما فى صحنها من طعام. والفتاة لا تحب العدس لكنها صغيرة وجائعة وترغب فى سماع الحدوتة. لذا تجلس غاضبة لتناول العشاء. الفتاة وشقيقاها لم يغادروا المنزل اليوم، قضوا يومهم يشاهدون المسلسل العربى وبرامج الأطفال. وهم يرمقون المطر المتساقط بشغف لعل الأم تسهو قليلًا فيفروا إلى الشارع ليبللوا ملابسهم. لكن الأم تحرسهم بعينى حدأة. لنعد لحكاية تلك الأسرة هناك فى المنزل القديم المتهالك هناك فى الطابق الرابع.. لماذا يكره الأطفال، كل الأطفال، البقاء محبوسين فى المنزل فى يوم شتوى بارد؟ 

الزوجة التى تغالب آلام مفاصلها طوال الشتاء، وتحتال على ذلك الألم القاتل بارتداء جوارب زوجها القديمة، تجاهد كل يوم لتعد لهم عشاءً ساخنًا وشهيًا بالجنيهات القليلة التى يتركها لها الأب كل صباح عشاء بلا لحم وأطفال متذمرين ووعود بعشاء أفضل فى غدٍ لا يأتى أبدًا. 

الأب يعمل سائقًا على قطار ما، أم أننى أخبرتكم أنها عربة أجرة، لا يهم، المهم هنا أن ذلك الأب البائس علمته مهنته مراقبة النوافذ المضيئة على جانبى الطريق. علمته مصادقتها وتخمين حياة البشر المختفين خلفها فى هذا البرد القارس، تمامًا كما علمتنى الوحدة.

ثمة نوافذ واسعة تطل من خلفها أضواء باهرة وبيوت قوية كالقلاع، لا ترتجف بردًا، ولا تهزها الرياح. نوافذ يطل من خلفها صغار كصغاره، تحتل أعينهم نفس النظرة المتشوقة للظلام فى الخارج. الفرق الوحيد بينهم هؤلاء الأطفال وأطفاله أن هؤلاء يستطيعون اختيار العشاء الذى يتناولونه كل مساء، بينما عليه هو أن يفكر كثيرًا، يفكر طويلًا قبل أن يقف أمام الرجل الذى يبيع البرتقال ليشترى ثلاث برتقالات لأطفاله، لأن حبيبة أبيها قالت له هذا الصباح وهى تطوقه بذراعيها الصغيرتين فى دلال: «ابقى هاتلى معاك وانت جاى حاجة حلوة». 

الشتاء فصل الحواديت، والحواديت مليئة بالعفاريت، والرياح التى تعوى بالخارج بلا توقف، كما يقول الأطفال. لكن الأب بلا نافذة تحميه وبلا أوهام أيضًا. الأب عفريته الوحيد فى الشتاء أن يمرض أحد صغاره فيضطر لاصطحابه للطبيب. الطبيب الذى يحتاج لنقود غير موجودة أصلًا. لذلك يستيقظ الأب مبكرًا جدًا ليركب القطار ويقل الآباء الذين لم يعودوا مثله يمتلكون رفاهية الخوف من الأشباح. ولم يعد يخيفهم مثله سوى عجزهم عن إطعام أطفالهم. والأطفال: أطفاله هو وأطفال الآباء الذين لم يعودوا يخافون من الأشباح يكرهون شوربة العدس والبصل الأخضر، لكنهم يأكلونها على مضض، لأنهم جائعون ولأنهم صغار، بعد أن تقسم لهم الأم أنها ستطهو لهم فى الغد أرزًا ولحمًا والقليل من البطاطس والأطفال كل الأطفال دائمًا يصدقون كل شىء. ربما لهذا يحبهم الله.