رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ذاكرة الكتب.. "الشحاذ" تساؤلات نجيب محفوظ عن معنى الوجود

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

تضع رواية "الشّحَّاذ" لنجيب محفوظ، المنشورة عام 1965، الكثير من الإشكاليات الوجودية تحت مجهر التفكير، ففيها يضع محفوظ تساؤلاته عن معنى الوجود، ومن خلال اختيارات بطل الرواية يوضح مثالب بعض الإجابات التي قد يقنع الإنسان بها ويُكمل حياته في كنفها إلا أنها تكون أبعد ما تكون عن معنى الوجود الحقيقي. 

على الرغم من تعدد الأفكار الوجودية بعدد منظريها فإنها تتفق في التركيز على موضوعات محددة مثل الحرية والمسئولية والضياع والسأم والقلق، وهي الموضوعات التي طرقتها رواية الشحاذ عبر رحلة بطل الرواية لاستكشاف كُنه وجوده. 

معنى الوجود

تبدأ أحداث الرواية من لقاء بطل الرواية "عمر" بصديقه القديم؛ الطبيب "حامد" وهنا يعاني البطل من انعدام الدافع والشعور بلا جدوى، هو ذاته "المرض العضال" الذي أصاب بطل  قصة "زعبلاوي" من مجموعة "دنيا الله" التي كتبها محفوظ قبل هذه الرواية بعامين، فهناك شعور بفراغ روحي غير أنه لا يدرك ذلك بداية بشكل محدد، فيقصد الطبيب طلبًا للدواء؛ آملًا أن يأتي العلاج "بحبه بعد الأكل أو ملعقة قبل النوم"، لكن الطبيب يؤكد له أنه لا يعاني من شيء، ويقول له "الدواء الحقيقي بيدك أنت وحدك"، ورغم أن الجملة قيلت في سياق الحديث عن علاج ظاهري، فهي تشير بشكل ما إلى أزمة البطل الداخلية التي لن يحلها سواه.

يبدأ عُمر رحلة العلاج مُتمسكًا بأمل أن يكون الداء ظاهريًا وليس باطنيًا، فيتبع الحمية ويمارس الرياضة ويذهب في عُطلة مع أسرته إلا أن الضجر لا يُغادره رغم ذلك بل إنه يمتد ليشمل ليس فقط عمله وإنما زوجته وبيته، من هنا يخوض عمر رحلة "التسول" باحثًا عن نشوة تنقذه من مرضه، ويبدأ من الملاهي الليلية مع مارجريت ثم وردة، لكنه وبعد أن يتزوج الأخيرة يعاوده الضجر ويأنفها ومع كل علاقة جديدة يعاوده المرض ويغزوه الضجر. 

أسئلة الوجود الحائرة 

يصل عُمر، عبر التداعي الحر لأفكاره، إلى أن كل تلك النشوة التي يمنحها له الحب للحظات وساعات ما تلبث أن تصير لا شيء، ويحل محلها الضجر ويعود المرض، ويصير لزامًا أن يبحث البطل عن طريق آخر غير الذي سلكه؛ طريق يجافي النشوات السريعة الزائلة. 

تمثلت حالة القلق التي عانى منها بطل الرواية من أسئلة لم يجد لها إجابة فظلت مُصاحبّة له، فقد تساءل بداية عن هذا الضجر الذي أصاب حياته فجعله زاهدًا في العمل ثم زاهدًا في زوجته ثم في عشيقته، وعن نشواته جميعها التي سُرعان ما خمدت جذوتها ليبقى السؤال وحده هو الصاحب، حتى بعد أن اختار العُزلة ظل القلق صاحبه. 

لا تقدم الرواية إجابة شافية عن أسئلة الوجود الحائرة لكن محفوظ يُعبر عن رفضه لقسوة هجر العالم بحثًا عن المعنى، وهو يُصر على أهمية العلم مع الإيمان. "القلب مضخة تعمل بواسطة الشرايين والأوردة، ومن الخرافة أن نتصوره وسيلة إلى الحقيقة، أنت تتطلع إلى نشوة وربما إلى ما يسمى بالحقيقة المطلقة، ولكنك لا تملك وسيلة ناجحة للبحث فتلوذ بالقلب كصخرة نجاة أخيرة، ولكنه مجرد صخرة وسوف تتقهقر بك إلى ما وراء التاريخ". 

رحلة فردية

يُمكن من خلال هذه الرؤية أن تُدحض الآراء التي زعمت مرارًا انتماء نجيب محفوظ إلى اتجاهات الوجودية المُلحدة، وإيمانه المُطلق بعبثية الحياة وزيف الإيمان، فأبطال نجيب محفوظ هنا في رواية "الشحاذ" يثبتون أن الفردية المُطلقة والعبثية لم تكُن من قناعات محفوظ في أعماله؛ فعُمريهتدي بعد رحلة بحث مضنية إلى أنه سيجد الله حيث الحياة بعنفوانها واستمراريتها، وابنته بثينة تكتب شعرًا في سر الوجود الذي تعشقه لكنها في الوقت ذاته تُحب العلوم وتُصر على أن تُكمل دراستها فيها، وكذلك الصديق عثمان يرى أن الإنسان لا يكون إلا ممثلًا للإنسانية جمعاء وساعيًا نحو تحقيق مصالحها. كل هذه الشخصيات تعبر عن قناعة بأن الإنسان إنما يخوض رحلّة فرديّة في التفكير محاولًا الوقوف على أرض فكرية صلبة، دون أن يعني ذلك أن يكون العبث هو غاية الحياة.