رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صريخ أهل البيت

المختار بن أبى عبيدالله هو كذاب ثقيف، كما استخلص الكثير من المؤرخين وهم يفسرون حديث النبى، صلى الله عليه وسلم، «فى ثقيف كذاب ومبير». وهو الرجل الذى أخذ على عاتقه مهمة الثأر من قتلة الحسين بن على فى كربلاء، وقد قطع طريقًا طويلًا فى سبيل تحقيق هذا الهدف، واستخدم بلاغته اللفظية فى شحذ الهمم، وتحريض أصحابه على الثأر من قتلة الحسين، ثم جعل يتتبع مَن فى الكوفة وكانوا يأتون بهم حتى يوقفوا بين يديه فيأمر بقتلهم على أنواع من القتلات، مما يناسب ما فعلوا، ومنهم من حرقه بالنار، ومنهم من قطع أطرافه وتركه حتى مات، ومنهم من يرمى بالنبال حتى يموت، فأتوه بمالك بن بشر، فقال له المختار: أنت الذى نزعت برنس الحسين عنه؟، فقال: خرجنا ونحن كارهون فامنن علينا، فقال: اقطعوا يديه ورجليه ففعلوا به ذلك، ثم تركوه يضطرب حتى مات، وقتل عبدالله بن أسيد الجهنى وغيره شر قتلة، ثم قتل خولى بن يزيد الأصبحى الذى احتز رأس الحسين، وعمر بن سعد بن أبى وقاص أمير الذين قتلوا الحسين، ثم كتب «المختار» كتابًا إلى محمد بن الحنفية قال فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم.. إلى محمد بن على من المختار بن أبى عبيد، سلام عليك أيها المهدى، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد فإن الله بعثنى نقمة على أعدائكم، فهم بين قتيل وأسير وطريد وشريد. فالحمد لله الذى قتل قاتلكم ونصر مؤازركم، وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه، وقد قتلنا ممن اشترك فى دم الحسين وأهل بيته كل من قدرنا عليه، ولن يعجز الله من بقى».

فى هذه اللحظة أحس عبدالله بن الزبير بالخطر المحيط به بسبب «المختار»، فبدأ يتحرك إلى محمد بن الحنفية، وكان معه سبعة عشر رجلًا من أشراف أهل الكوفة فحبس «ابن الحنفية» ومن معه حتى يبايعوه، فكرهوا أن يبايعوا إلا من اجتمعت عليه الأمة، فتهددهم «ابن الزبير» وتوعدهم واعتقلهم بزمزم، فكتبوا إلى المختار بن أبى عبيد يستصرخونه ويستنصرونه، ويقولون له: إن ابن الزبير قد توعدنا بالقتل والحريق، فلا تخذلونا كما خذلتم الحسين وأهل بيته. فجمع «المختار» الشيعة وقرأ عليهم الكتاب وقال: هذا صريخ أهل البيت يستصرخكم ويستنصركم، فقام فى الناس بذلك وقال: لست أنا بأبى إسحاق إن لم أنصركم نصرًا مؤزرًا، فسار جنده حتى دخلوا المسجد الحرام نهارًا جهارًا، وهم يقولون: يا ثارات الحسين، وقد أعد «ابن الزبير» الحطب لابن الحنفية وأصحابه ليحرقهم به إن لم يبايعوه، وقد بقى من الأجل يومان، فتوجه أصحاب «المختار» إلى محمد بن الحنفية فأطلقوه من سجن «ابن الزبير»، وقالوا: إن أذنت لنا قاتلنا «ابن الزبير»، فقال: إنى لا أرى القتال فى المسجد الحرام.

عند هذه المرحلة بدأ الخليفة الأموى «عبدالملك بن مروان» يشعر بخطر «المختار»، فأرسل إليه جيشًا من الشام على رأسه عبيدالله بن زياد، فسيّر «المختار» إليه أصحابه بقيادة «ابن الأشتر»، وخرج معه يودعه فى وجوه أصحابه ومعهم كرسى «المختار» على بغل أشهب ليستنصروا به على الأعداء، وهم حافون به يدعون ويستصرخون ويستنصرون ويتضرعون، واستمر أصحاب الكرسى سائرين مع ابن الأشتر، فجعل الأخير يقول: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، سنة بنى إسرائيل والذى نفسى بيده إذ عكفوا على عجلهم فلما جاوز القنطرة هو وأصحابه رجع أصحاب الكرسى. 

نفر «ابن الأشتر» من «كرسى المختار»، وشبهه بالعجل الذى عبده بنو إسرائيل. ويحكى «ابن كثير» حكاية عجيبة عن هذا الكرسى، يقول فيها إن «المختار» خطب الناس فقال: «إنه لم يكن فى الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن فى هذه الأمة مثله، وإنه قد كان فى بنى إسرائيل تابوت يستنصرون به، وإن هذا مثله، يقصد الكرسى الذى يجلس عليه، ثم أمر فكشف عنه أثوابه فكبر الناس ثلاثًا، فقام شبث بن ربعى فأنكر على الناس، وكاد يكفّر من يصنع ذلك، وأشار بأن يكسر هذا الكرسى ويخرج من المسجد. فلما قيل هذا عبيد الله بن زياد قد أقبل وبعث المختار بن الأشتر، أرسل معه بالكرسى يحمل على بغل أشهب قد غشى بأثواب الحرير عن يمينه سبعة، وعن يساره سبعة، فلما تواجهوا مع الشاميين وقتلوا «ابن زياد» ازداد تعظيمهم لهذا الكرسى، حتى بلغوا به الكفر. 

جاءت نهاية المختار على يد مصعب بن الزبير، الذى سار بجيش كبير إلى الكوفة، حيث لقيتهم الكتائب المختارية، فحملت عليهم الفرسان الزبيرية، فما لبثت المختارية إلا يسيرًا حتى هربوا، وقتل منهم جماعة من الأمراء، وخلق من القراء، وطائفة كثيرة من الشيعة. وحوصر «المختار» داخل قصره، ومنعوا عنه الغذاء والماء، وكان «المختار» يخرج فيقاتلهم ثم يعود إلى القصر، ولما اشتد عليه الحصار، قال لأصحابه: إن الحصار لا يزيدنا إلا ضعفًا، فانزلوا بنا نقاتل حتى نموت كرامًا، فقال: أما فوالله لا أعطى بيدى، ثم اغتسل وتطيب وتحنط، وخرج فقاتل هو ومن معه حتى قتلوا.

انتهى أمر المختار بن أبى عبيد الله الثقفى، الذى ذهب أهل السنة إلى أنه «كذاب ثقيف» الذى تحدث عنه النبى، صلى الله عليه وسلم، فى الحديث الذى يقول: «فى ثقيف كذاب ومبير». والواضح أن ثمة مبالغات فى تناول سيرة هذا الثقفى، سواءً من جانب المتشيعين لأهل البيت، أو من أهل السنة، وإن كان المؤرخون المنحازون للدولة الأموية أكثر طعنًا فيه، وأشد اتهامًا له بالكذب، وقد اتهموه بتهم عجيبة من بينها قوله بأن جبريل عليه السلام يأتيه بالوحى، ومن اللافت- فى المقابل- أن تجد رجلًا بحجم عبدالله بن عمر يتزوج من شقيقة «المختار»، وكانت العلاقة بين الاثنين وطيدة، ولكن لكى يبدد «ابن كثير» أى تصورات قد تقفز إلى ذهن قارئه وتنفى عن المختار تهمة الكذب، نجده يحكى أنه قيل لابن عمر- وكان زوج أخت المختار وصفيه- إن المختار يزعم أن الوحى يأتيه، قال صدق، قال الله تعالى: «وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم».