رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تنقلات العيد.. حكاية المتسولين

سيد الأبنودي
سيد الأبنودي

في كل عام، وخلال أيام عيد الأضحى المبارك، تتغير ملامح شوارع وميادين القاهرة بشكل دراماتيكي، تبدأ مظاهر الاحتفال بالعطاء والتكافل، إلا أن مشهدًا آخر يبرز بقوة، مشهد المتسولين الذين يملؤون الأركان والأزقة والأرصفة، التي تم تحويلها إلى مسرح مفتوح لعروض التسول.

منذ يوم الوقفة، يتزايد انتشار المتسولين بشكل ملحوظ، يتواجدون في كل مكان: على الأرصفة، بجانب أسوار المقابر، عند إشارات المرور، وفي الشوارع المزدحمة، لكن هذا الانتشار ليس عشوائيًا كما يبدو، بل هو جزء من نظام دقيق ومنظم يضم صفوفًا من المتسولين يقفون على مسافات مدروسة بينهم، كلٌ منهم في مكانه المحدد، يتنظر عطايا العيديات والأموال من المارة والمعيدين والأثرياء وأصحاب السيارات الفارهة.

كما أن العديد من هؤلاء المتسولين ليسوا بحاجة فعلية لهذه الأموال، بينهم شباب في مقتبل العمر، ذوو بنية قوية وأجسام مفتولة، وكذلك نساء قادرات على العمل والكسب بكرامة، لكنهم يستغلون تعاطف الناس، مستغلين جهلهم بحقيقة حالهم، حيث يُظهرون أنفسهم بمظهر الفقراء والمحتاجين،هؤلاء الأشخاص، ومن دون وجه حق، يأخذون ما يجب أن يُعطى للفقراء الحقيقيين والمتعففين، أولئك الذين لا يسألون الناس إلحافًا.

تزامنًا مع العيد، تحدث تغييرات وتنقلات واسعة في صفوف المتسولين، يتم ترتيب هذه التنقلات وفق خطة مُحكمة من قبل رؤساء المناطق، حيث يُستقدم متسولون جدد إلى المناطق المختلفة، ويُؤجرون الأماكن بأسعار مرتفعة، يتركز هؤلاء المتسولون في مناطق استراتيجية، حيث يدير كل منطقة رئيس أو "معلم" يشرف على عمليات التسول، مقسمًا الأماكن وفق خريطة مكانية دقيقة. وفي مقابل هذا التنظيم، يحصل "المعلم" على نسبة من الأموال المتحصلة أو تأجير المكان للمتسول بمبالغ محددة.

خذ مثلًا منطقة سور مقابر السيدة عائشة، حيث يُقسم السور إلى أكثر من 40 بلاطة، كل بلاطة هي موقع محدد يقف فيه المتسول ولا يتجاوزه، تُباع البلاطة الواحدة بأكثر من 1000 جنيه يوميًا في الأماكن المميزة، يشتري المتسول البلاطة من المعلم، ويستعين بأفراد عائلته لاستغلال الموقع بشكل أفضل، يقفون أمام السيارات وكأنهم لا يعرفون بعضهم لزيادة حصيلة التسول.

وفي طريق سلاح سالم، الممتد من بداية نفق الملك الصالح وحتى مدخل مساكن شيراتون قبل كوبري المطار، يتكرر نفس المشهد، يُقسم الطريق إلى مناطق، ولكل منطقة رئيس يديرها. وهنا تختلف أسعار الإيجار بناءً على فئات المارة وأصحاب السيارات، القادمون من السيدة عائشة باتجاه مصر الجديدة يُعتبرون من الأغنياء، لذا ترتفع أسعار الإيجار في تلك المنطقة مقارنة بالجهة المقابلة، حيث يقف المتسولون القادمون من مصر الجديدة باتجاه السيدة عائشة، الذين يُعتبرون من الفئات المتوسطة.

أما المناطق المحيطة بالتجمع الخامس، فهي الأكثر جذبًا للمتسولين، يُصنف هؤلاء المتسولون أنفسهم كأغنياء بين أقرانهم، حيث يدفعون مبالغ طائلة للحصول على أماكن استراتيجية على جانبي الطريق أو أمام الكمبوندات، يشترون أو يستأجرون البلاطة مقابل مبالغ كبيرة، مستغلين العطاء الوفير من المارة الذين يعتقدون أنهم يساعدون المحتاجين.

هكذا، يتحول تسولهم إلى عمل منظم، يستغلون فيه المناسبات الدينية لجني أرباح طائلة، بينما يظل الفقراء الحقيقيون والمتعففون بعيدين عن الأضواء، ينتظرون من يلتفت إلى حاجتهم بصدق وإخلاص. في نهاية المطاف، يصبح هذا المشهد انعكاسًا لمجتمع يتعامل مع ظواهره بسطحية، غير مدرك أن وراء كل متسول قصة، وأن بعض القصص ليست سوى حكايات مفتعلة لخداع العابرين.