رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البنت السودانية

سبقتنى بخطوة وهى تضع تذكرتها فى ماكينة الخروج بمحطة «مبارك» بمترو الأنفاق، قبل أن تنظر إلى الوراء بفزع عظيم كأنها توقعت أننى سأهوى على رأسها بضربة مميتة.

هلع الطفلة، التى جاءت من الجنوب السودانى، جعل جسدى يرتج من المفاجأة، وخرجت الكلمات هامسة مرتعشة: «متخفيش يا بابا»، لكنها مرت من الماكينة وانطلقت سريعًا.

كانت هاربة من الحرب الأهلية الدامية فى السودان، التى أدت لانقسامه إلى دولتين شمالية وجنوبية، ولم أعرف هل كانت الفتاة مصابة بهلع الحرب أم هلع التنمر؟

جاءت ضمن المئات، وربما الآلاف، ممن يبحثون عن حياة أفضل ومهرب إنسانى عبر المفوضية السامية لشئون اللاجئين، يحلمون بالهجرة إلى أوروبا والعيش من جديد، وكانت هجرتهم نحو الشمال تبدأ من مصر وترنو إلى ساحل الشاطئ البعيد.

تزايد عدد الحالمين ووصل إلى الملايين، فزاد الود والوصال بين الشعبين وزادت المشكلات أيضًا، أشهرها بطبيعة الحال التنمر، الذى يمارسه بعض غلاظ العقل والقلب، وتواجهه غالبية المصريين بفطنتهم الطيبة.

الآن يعيش السودان حربًا أهلية جديدة جعلت كثيرين يهربون إلى دول الجوار، ومن بينها مصر، خوفًا على حياتهم، وفى ظنى أن بين هؤلاء الهاربين «البنت السودانية»، وهو لقب فتاة مراهقة ظهرت على مقطع فيديو تنتقد فيه المياه والطعام فى مصر، قبل أن تغادر البلد إلى مكان آخر، ربما كان غربيًا.

بدت الفتاة وكأنها تتنمر على معيشة المصريين البسيطة، تتحدث بطبقية واستعلاء، لا يعرفها الكادحون من أهلنا فى مصر والسودان، لم تلتفت إلى مأساة شعب فر من جحيم الحرب والموت والدمار، ولم يشغل بالها سوى نوعية المياه، التى تأتى من نهر النيل الذى يواجه تهديدًا وجوديًا ومخططًا ليكون نجاشيًا فقط.

تتحدث بلسان نصفه عربى ونصفه الآخر أفرنجى، وزعلى ليس لأنها انتقدت أوضاعنا، لكن لأنها تعالت على فقرنا وفقر بلادها، تعالت على الملايين الذين باتوا فى ضيافتنا، ثم صاروا جزءًا منا، وصارت دون أن تدرى ضمن حملات التحريض على الكراهية التى تنفخ كيرها عناصر من هنا أو هناك، ولا أستبعد نظرية المؤامرة فى هذا الشأن.

هؤلاء لا يعرفون ناقشات الحناء ولا بائعى العتبة ولا صديقى إسماعيل الساعاتى أو «مترو» منظم رحلات السفر بين القاهرة والخرطوم وجوبا، ولا أم حسن ورائحة بخورها التى تظلل جيرانها، لا يعرفون الشهداء الذين واجهوا «الكيزان» بصدور شجاعة، لا يعرفون شهداء الحرية والعدل ولقمة العيش.

لا يعرفون محمد وردى و«بلدى يا حبوب جلابية وتوب»، ولا الطيب صالح، ولم يحضروا «عرس الزين» أو يجلسوا عند «دومة ود حامد»، لم يسمعوا «البلابل» و«الهيلاهوب»، ولم يتعاطفوا مع الحاجة بخيتة.. الأم العصية الصابرة.