رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كلبة عبد النبي التي قطعت للولد حتة من الكريمة (1/3)

"بص عضتني فين.. بص"
من المعروف أن أشهر الكلاب في التاريخ هم كلب أهل الكهف والكلبة لايكا والكلبة لاسي وكلبة عم عبد النبي.
الثلاثة الأوائل معروفين تمامًا، أما كلبة عم عبد النبي فشهرتها أكبر منهم جميعًا عند أهل النجع، ولهذا اسباب، ففي اعتقاد الكثيرين هناك أن الكلبة من سلالة غير معروفة، وربما كانت آخر سلالتها، وذلك لأنها تملك صفات أكثر من مجرد الوفاء والشم والعض، وإن كانت قدرتها على العض توازي ما يمكن أن تفعله أنياب تمساح الكايمان في فريسة مجروحة.
الحكاية باختصار أن كلبة عم عبد النبي هي التي منحت العم عبد النبي كل هذه الوجاهة، فهي التي جعلت اسمه يتكرر على ألسنة أهل النجع، وهي التي جعلت الكثير منهم ذليلًا وهو يحدثه بأنه يحتاج للمرور من أمام الدار، وأن عليه ربط الكلبة، وأن عجيزته لن تحتمل غرس ناب آخر، بخلاف الأنياب التي نالت منها، وهي التي جعلت رأي العم مسموعا عند أكابر الرأي، ومن الذي يمكنه أن يخالف عبد النبي ويمر أمام دواره فيطلق عليه كلبته فيفضح هيبته ووقاره ويجعله يكشف عجيزته لكل من هب ودب :" بص عضتني فين.. بص".
في البداية فإن بيت العم عبد النبي يقع على شارع حيوي كان يغص بالمارة قبل مجي الكلبة، ومع أول ردف نقص بسبب أسنانها راحت الأقدام تُعَبِّد شارعًا آخر، فمن الذي يمكن أن يفرط في جزء من "الكَرِيمة"ّ!.
وعن قصة مجئ الكلبة للنجع وتحديدًا لبيت عبد النبي فالعم يعمل مزارعًا مثل كل أهل النجع، يملك قطعة أرض وعربة كارو وبقرة وجاموسة وحمار ضعيف وهزيل ولا يصلح للمشاوير البعيدة، لكنه يصلح لشد العربة الكارو بسرعة سلحفاة - لكنه على كل حال يشدها - وهذا هو الأهم، والأكثر أهمية أنه مفردة موجودة تمنح العم لقب المزارع فكيف يكون مزارعًا بلا حمار!.
المهم أن العم عبد النبي كان قد أنهى شجاره كما هي عادته مع زوجته وسبها وسب ابنته وابنه وخرج يسب ويلعن في العالم بكل مفرداته، وسحب الحمار بعد أن لعن سنسفيله هو الآخر وربط العربة الكارو به وانطلق ثم توقف على بعد عشرين مترا ونظر إلى بيته وبصق بقوة : “يحرق أبو اللي جابك"، وأكمل الرحلة.
وراح العم يرفع الـ"طورية" ويقطع الفصوص عن أديم الأرض ويوزع "الدرابيس" تمهيدًا للري، وسمع الصوت، كان يشبه جرًا محاذرًا لباب بيت يدور قائمه في كوز من الصفيح، وجرى العم ليفاجئ بالجرو الصغير وسط الزراعات، وأمسكها العم ولعن العالم الذي انتهت فيه الرحمة حتى يرموا الكلب في أرضه وكيف كانت ستموت لو لم يجئ العم، وعرف أن وجوده كان مسخرًا لمشيئة الرب الرحيم وترك العم "الدرابيس" وجرى باتجاه البيت مع الغنيمة الصغيرة.
حين سأله البعض من أهل النجع عن الكلبة قال لهم:" لقيتها في أرضي"، فسخر منه ساخر:" يعني نبتت مع الزرع يا خي".
لم يحتج العم أن يضع الشطة الحمراء للكلبة حتى تسعر وتقضم كل كَرِيمة لأهل النجع، لكنه لاحظ ذلك مبكرا، حين سحب طبق اللبن من أمام الكلبة فزمجرت لوهلة وكادت أن تعقره ثم تذكرت أنه منقذها فـ"تمردغت" على الارض وهي تنظر له بطرف عينها، حتى أنه ضرب كفا بكف ونظر للكلبة متمتمًا:" والله منا عارف انتي كلبة ولا جنسك إيه".
ولم يفاجئ العم بعد ذلك بكثرة الشكاوى والدماء التي سالت وراحت تعلن عن عصر جديد يكون فيه العم عبد النبي صاحب قرار ورؤية وبصيرة فلكل رجل جيشه وكلبته هي جيشه الوحيد.
من أغرب المواقف التي تعرض لها العم أنه كان يعمل في أرضه وسمع جلبة كبيرة ورأى جمعًا من الناس يتجه إليه يتقدمهم صبي يمد يده فاردًا راحتها أمامه، ومن فخذه تسيل خيوط من دم، وعندما وصل الجمع إليه رأى العم قطعة اللحم على راحة يد الصبي:" شايف كلبتك عملت فيا ايه؟.. بص عضتني فين.. بص؟"، يومها كان مبسوطا بكل هذا الجمع الخائف.
ولم يلتفت العم لكل مشكلة صغيرة، وكثيرًا ما تعرض لأن يهوي أحدهم على صدغه بلطمة، أو يجري آخر وراءه بفأس، أو أن يسبه أحدهم بأمه وأبيه ثم يصرخ:" يا يجيبهالك يا كلبك يا ولدك"، فيضحك العم ويقول:" المثل قال يا يجيبهالك يا كلبك يا ولدك.. مقالش كلبتك".
عانى العم من الكثير من المشكلات لكنه لم يلن، ولم يفتر عن الدفاع عن الكلبة، وكيف أنها هدية الله إليه، والحق يقال أن الكلبة قامت بأمور أكثر مما توقعه، فقد حددت سير الناس أمام البيت حين تكون الكلبة مربوطة فقط، أما إن كانت أمام الدار فلا يجرؤ أحدهم على الاقتراب، ولذلك كان آمنا وهو يرش الأرض أمام داره لطرد الحرارة ثم يفرش الكليم وييمدد جسده ويعلم تمام العلم انه سينام قرير العين، فيما تحوم الكلبة حوله بهدوء مثل حارس أمين.
كانت زوجة عبد النبي تكره الكلبة، وذلك لأنها منعت الحريم من السؤال عنها، وبالتالي أصبح لديها نقص في أشياء كثيرة، من التي سوف تأتي لها وتقول :" خدي حتة الخميرة دي"، ومن التي سوف تحضر لها لـ"تقريح العجين بعد دبدبته على المقارص"، ومن أين لها بمساعدات البنات في "خض اللبن، وحلب البقرة والجاموسة، وتقطيع العجين، وتفويد الفرن ولم الوقيد"؟.
والكلبة من جانب آخر منعت طالبي القرب من العم في ابنته، فمن الذي يحب المجئ كاملًا والرحيل ناقصًا؟، وبالرغم من ذلك فإن العم لم يطرد الكلبة، لكنه كان يفكر في طرد زوجته وابنته وابنه، هؤلاء الذين ينغصون عليه حياته ولا تتوقف ألسنتهم عن الطلب، الكلبة لا تطلب بيضًا ولا جبنًا ولا عسلًا، ولا تصرخ فيه أبدًا ولم تمسك يومًا بهراوة فأس لتلوح بها في غضب أمام وجهه، الكلبة رحيمة وتجعله ينام في هدوء.
لكنه غضب فعلًا حين خرج في مرة فوجد العديد من الكلاب حول كلبته، وهاله المنظر؛ فصرخ مفجوعا وتركها تكمل ما بدأته، وعاد للبيت دافنا وجهه بين كفيه، وهنا فكر في الأمر، فالكلبة من حقها هذا الفعل لكن كان يجب ان يختار لها وليس أن تفعلها مع كل كلب يمر.
الأمر كان له توابع اخرى، لذلك غرس العم سلسلة في ظهر البيت وربط فيه الكلبة، وسمح لخطاب ابنته بالقدوم وطلب يدها، وبعد زواج ابنته لاحظ بطن الكلبة التي تورمت وعرف انه بصدد جيل جديد من أبناء الكلبة.
هناك مصادر تؤكد أن الكلبة ولدت كثيرا لأنها - وبكل بساطة - كلبة، وأنها عاشرت ابناءها أنفسهم، المهم انها أنتجت جيلًا جديدا من العضاضين، وكانت هذه مشكلة كبيرة تحاوط أهل النجع وتؤرق مضجعهم، فالكل يخاف على كريمته، وراحت الأرداف تنقص في أماكن كثيرة بفعل أبناء الكلبة، وهنا اقترح أحد الأكابر - ممن كان يملك حمارًا قويًا جعل له وجاهة بين أبناء النجع- أن تقتل الكلبة وقال في سياق كلامه إن رأس الأفعى هو السبب وأن كل هذه الكلاب مهجنة وستتوقف يومًا عن العض لكن الكلبة الأم يجب أن تموت.
وطبقًا لهذا المقترح تجمع وفد من أكابر أهل النجع ودعوا العم عبد النبي للمثول أمامهم في خيمة المناسبات، وأقروا عليه بأنه يجب قتل الكلبة، ولم يوافق العم، وبرغم الضغوط من كل جانب لكنه رفض تماما وقالها في وجوههم جميعًا:" اللي هيقتل الكلبة كأنه قتلني أنا".
ولم يستطع أحد الاقتراب من الكلبة حتى جاء يوم سمع الجميع فيه صرخة كبيرة لعبد النبي وهو يحمل جثة الكلبة على يديه، يومها وقف على رؤوس الأشهاد وصرخ:" اللي مش هيعزيني ف كلبتي مش هعزيه ف ولده"، يومها تهامس الساخرون:" لما تعزيه تسلم عليه وتهوهو"، وقال آخر:" المهم ان عيالها ميكونوش ف استقبالنا ف العزا؟"، وقال ثالث:" لو قعدنا لحد الغدا هيوزعوا على كل واحد فينا عضمة"، وقال آخرهم لصديقه:" عاوزني أروح اعزي فيها.. بص عضتني فين.. بص".