رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

علاقة مُميكنة

رشا عبادة
رشا عبادة

ساعة ونصف، قضيتها أمام ماكينة البنك، التى اخترعوا لها فمًا يأكل نقودنا إيداعًا أو يبصقها فى وجوهنا سحبًا!

يقول عم سلطان الذى يقف بجوار ماكينة تصوير البطاقات الشخصية شامخًا: «إنها مش مسئوليته، وإن العيب غالبًا فى الحساب نفسه أو الماكينة مليانة فلوس أو السيستم مش شغال»، ويقول الشاب الحليوة الجالس خلف مكتب الاستعلامات: «حاولى تانى يا آنسة»! ينطقها كرسالة خدمة عملاء مسجلة، صحيح أنه لا ينظر إلىَّ، لكن كلمة «آنسة» التى تخرج من فمه «تقولش سكر» جعلتنى أكرر المحاولة عشرين مرة وأعود لأسأله ٢٥ مرة.

«العملية مرفوضة».. الجملة المحبطة التى تظهر كل مرة على شاشة الماكينة تذكرنى بزوجى، هو أيضًا يرفض ما أظنه منطقيًا، يعيد صياغته بثقة مميكنة، تصيبنى كل مرة بالخرس، يضع زجاجات الماء فارغة فى الثلاجة، أسأله: ما جدوى أن تعيدها فارغة للثلاجة؟ فيقول: إن وجودها داخل الثلاجة فارغة أفضل من وجودها بجوار الحوض فارغة!

الطابور الطويل الذى يتزايد أمام الماكينة أصبح مؤتمرًا شعبيًا مصغرًا استبدلنا بامتداده دائرة مغلقة.

تقول الحاجة سناء: «يختى مالهم البنى آدمين، أحسن من المكن على الأقل بيسمعونا».

ويقول الأستاذ علاء: «المكنة دى متبرمجة لو ورقة بخمسين جنيه مكرمشة مش بتاخدها وترفض العملية»، بينما يؤكد الحاج جلال أن فيها كاميرا وأى راجل بدقن أو ست لابسة حجاب تقول له: العملية مرفوضة!

ويتصل زوجى غاضبًا: «كل ده فى البنك بتعملى إيه يا هانم.. مكنوش ٢٠٠٠ جنيه عُمى، محوشاهم وفرحانة بيهم؟».

أقول: والعمل إيه يا عم سلطان؟ فيضحك: «هاتيهم يا عسل وانا أحوشهملك».

ويقول الشاب فى الاستعلامات: «ممكن أديكى رقم إيداع تدخلى على الشباك، لكن صدقينى يا آنسة الساعة اللى وقفتيها على المكنة هنا هتبقى أربع ساعات فى زحمة البنك، ثم الموضوع مش مستاهل دول يدوب ٢٠٠٠ جنيه».

تقول الحاجة سناء: «يا بنتى روحى لجوزك وعيالك وتعالى يوم تانى بدل ما يطلقك، ربنا يهدهم البُعدا». لم أفهم تحديدًا على من يعود الضمير «هُم» فى دعائها «ربنا يهدهم» لكنه سيكون مريحًا، سواء سقط على رأس مخترع الماكينة ومدير البنك والشاب الحليوة فى الاستعلامات، أو حتى على رأس الرجال المتزوجين.

الشاى الكُشرى بالنعناع، الذى طلبه لى عم سلطان تكريمًا لبطولتى وبسالتى وتفاؤلى المنفرج الزوايا، متنامى أضلاع الروتين، لأنى الوحيدة التى تبقت من طابور استسلم أعضاؤه للرحيل بخفى حنين بعد ساعة واحدة من المحاولات الفاشلة، جعلنى أقضى نصف الساعة الأخير فى حوار صحفى قصير معه، سألته: «كيف لرجل عيونه خُضر، رمادى الشعر، ممشوق القوام، ودمه خفيف أن يعمل مسئول ماكينة تصوير فى بنك حكومى؟».

فقال: «بصى يا عسل.. منها لله مراتى هى السبب، من تلاتين سنة منعتنى أسافر السعودية وضيعت علىَّ الفرصة»، واسترسل بحسرة: «المصايب كلها بتيجى من ورا الستات!».

الاتصال الثالث من زوجى أكد فيه أن مبرراتى مرفوضة وأن الساعة لو دقت الثالثة عصرًا وأنا خارج المنزل، سأصبح طالقًا بالتلاتة وأضاف: «وبالأربعة والخمسة كمان» على سبيل التهديد.

اضطررت لإنهاء الحوار مع عم سلطان، ودعت الماكينة، منحت شاشتها «بوسات» طائرة مع وعد بلقاء قريب، وسألت الشاب الحليوة فى الاستعلامات بجدية إن كانت الماكينة مرتبطة أو حد متكلم عليها؟

فقال: «مش فاهمك يا آنسة!».

قلت له: زوجى أيضًا لا يفهمنى، ولا يفهم أنه من الممكن أن تقبل المدام الطلاق بالخمسة مُقابل ثلاثين مرة يقال لها «يا آنسة» ومرتين «يا عسل» وواحد شاى كشرى بالنعناع!