رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«شاهد على مصر».. توفيق الحكيم: رفضت إهداء الملك فاروق «شهرزاد» وصوّرته كـ«شهريار» المستهتر

توفيق الحكيم فى لقاء
توفيق الحكيم فى لقاء سابق مع الكاتب إبراهيم عبدالعزيز

كان شيخ الكتّاب توفيق الحكيم «١٨٩٨- ١٩٨٧» شاهدًا بين عصرين عاش خلالهما تجربة مصر الملكية، ثم مصر الجمهورية، ولم يكن أبدًا منعزلًا فى برجه العاجى- كما صوره بعض نقاده- وهو يكتب ويخوض معاركه فكرًا وفنًا، بل كان يراقب ما يحدث حوله سياسيًا واجتماعيًا، من خلال عمله وكيل نيابة ثم موظفًا حكوميًا، كاد يتورط على حين غفلة منه فى إحدى القضايا السياسية، وهو هنا يتذكر عبر حوارات مطولة معه كثيرًا من المواقف، كان آخرها حوار جمعنى معه فى مكتبه بـ«الأهرام» فى يناير ١٩٨٧، قبل رحيله بحوالى سبعة أشهر، وكان حاضرًا محمد جلال رئيس تحرير مجلة «الإذاعة والتليفزيون»، ود. سمير سرحان رئيس هيئة الكتاب، ود. نهاد جاد الكاتبة المسرحية، ثم انضمت إلينا نوال المحلاوى سكرتيرة محمد حسنين هيكل، وحضر د. لويس عوض لبعض الوقت، وكانت المناسبة تهنئة توفيق الحكيم بالسنة الجديدة، فترك مكتبه وجلس بيننا وكأنه يودعنا، بعد أن أدلى بشهادته على عصر كان أحد نجومه وفرسانه.

كتب توفيق الحكيم «عودة الروح» إلى الشخصية المصرية التى يزعمون أنها ميتة منذ قرون، ولا يرون قلبها العظيم بارزًا نحو السماء من بين رمال الجيزة، لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش الأبد.

فعودة الروح تفسير لحياة شعب مصر التى تراكمت فى أعماقه الرواسب القديمة على مدى الحضارات المختلفة، فكونت منه قدرة خفية تسعفه فى أزماته وترد إليه روحه كلما استهدف لخطر التلاشى والانهيار.

وقد كان لـ«عودة الروح» تأثير عملى فى جمال عبدالناصر قائد ثورة يوليو- كما سوف نرى فيما بعد- ثم أخرج توفيق الحكيم «يوميات نائب فى الأرياف»، مشيرًا إلى مواطن الفساد فى الريف المصرى، متطلعًا إلى تغييره ورفع الظلم عن الفلاح الذى أثقلت كاهله وطأة المعاناة.

وكما عبّر الحكيم فى أدبه بطريق الفن عن انفعالاته تجاه الواقع السياسى والاجتماعى، فقد عبر كذلك وشارك بمقالاته وسلوكه، فابتعد عن الحكام لكى يستطيع أن يوجه إليهم نقده بنزاهة وحرية، وهنا تبرز مسئولية رجال الفكر- كما يقول الحكيم- فعلى هؤلاء الابتعاد عن الأحزاب والحكام لكى يمارسوا دورهم فى توجيه الرأى العام كما يجب، فهذا مبدأ اتبعته طوال حياتى، فلم أختلط بفؤاد وفاروق، ولا بعبدالناصر، وفرضت علىّ الظروف الالتقاء بالسادات.

وتحضرنى حكاية مع الملك فاروق، فقد جاءنى ذات يوم مدير الأوبرا- كان إيطاليًا يعمل مربيًا فى القصر- واسمه كانتونى، وكنت مديرًا للتحقيقات بوزارة المعارف، وقال لى: كنت مع جلالة الملك فاروق وسألنى تعمل إيه يا كانتونى؟، فأجبته: أقرأ الترجمة الفرنسية لمسرحية «شهرزاد»، ورأيى أن أضع لها النوتة الموسيقية لكى نقدمها على المسرح، فقال لى الملك: لم أقرأ هذه المسرحية، وسمع الحديث العشماوى بيه وكيل الوزارة فقال: يا خبر.. ده أمر رسمى بتقديم نسخة من «شهرزاد»، ومهداة بخط يدك إلى صاحب الجلالة.

وتهربت بهذا الجواب: دعنى أولًا أفتش عن نسخة المسرحية. وقمت إلى مكتبى وعثرت على نسخة، فجعلت أقلب صفحاتها، وقلت فى نفسى: وهل سيفهم الملك فاروق المحدود الثقافة ما كتبت؟

إننى لست من هؤلاء الكتّاب الذين يرسلون بنسخ من إنتاجهم إلى الملوك والرؤساء لمجرد الإهداء، فلم أفعل هذا قط فى حياتى، وأنا أُقدر القادة الذين يقرأون، ولا أهدى كتبى إلى أشخاص أعرف سلفًا أنهم سيكتفون بركنها لمجرد الزينة فى زوايا المكتبات، كما أننى لا أهدى أبدًا كتابًا بالمراسلة لأشخاص لا أعرفهم.

المهم أن العشماوى بيه نسى حكاية «شهرزاد»، وأحيل كانتونى إلى المعاش، ولم أرسل الكتاب إلى فاروق. نعم إننى أدعو الأدباء والمفكرين إلى النأى عن الحكام، فذلك يعطيهم حرية النقد الموضوعى البناء.

ونشرت مقالًا جعلت فيه الملك فاروق فى صورة الملك «شهريار» المستهتر، وهو غارق فى لهوه وعبثه وجنونه، فجاءته النصيحة فى صورة «شهرزاد» العاقلة تقول له أن يفيق من مباذله وملذاته ويلتفت إلى شعبه، ويضع فى يده الحرية التى تمكنه من النهوض ومن إصلاح أحواله.. وكلام من هذا القبيل استلفت النظر، وقابلنى وقتئذ النائب العمومى محمود بك منصور فى محل «جروبى»، وقال لى: خذ بالك.. هذا المقال عن «شهريار»، فلم أجعله يُتم وقلت له: ماله؟ إنه عن ملك «ألف ليلة وليلة». فابتسم ابتسامة ذات معنى وقال: أنت فاهم وأنا فاهم.. المهم أن تكون حريصًا، وأقولها لك كصديق.

وتحضرنى حكاية هنا مع النحاس باشا، فقد كان يطلق عليه اسم «الزعيم الجليل»، فكتبت «شجرة الحكم» وأطلقت عليه لقب «الزعيم الجميل»، وأدرت حوارًا فى الكتاب بين هذا الزعيم الجليل صاحب الدولة وهو يتمشى فى الجنة باسمًا مرحًا بقرب نهر الكوثر متأبطًا ذراع حوريتين جميلتين، وبين صاحب المعالى، وكنت أقصد به مكرم عبيد، وأدرت الحوار فى المسرحية على أساس أن يترك النحاس الحكم ليكون زعيم الأمة، لكن صاحب المعالى نصح بعدم تصديق هذا الكلام، لأن الزعيم الذى يترك الحكم فى بلادنا يصبح وضعه أشبه بالقفاز الجامد الذى انسحبت منه الأصابع، فهذه هى الحكم والسلطة، والقفاز هو المبادئ وبرامج الحكم.

ولم يزعل منى مصطفى النحاس وإنما تأثر بعض الشىء من استخدام تعبير الزعيم الجميل، وقال لسكرتيره إبراهيم فرج- وهو زميل لى قديم منذ مدرسة الحقوق-: قل لصاحبك إنك موظف حكومة ولا يحق لك أن تقذف فى حق رئيس الحكومة، لأننى لست جميلًا. 

غير أن النحاس باشا قد تضايق فعلًا عندما كتبت فى «الأهرام» «الخواتم الثلاثة المزيفة»، مشيرًا إلى أن الأحزاب القائمة فى البلد كلها مزيفة، وكان ذلك على إثر فوز النحاس فى الانتخابات بالأغلبية، وتكليفه برئاسة مجلس الوزراء، وصرخ النحاس باشا وهو يرأس الجلسة الأولى لمجلس الوزراء: «يقول عنا إننا مزيفون مع أننا فزنا بثقة الأمة.. فكيف يقول الحكيم هذا، ويساوينا بحزب الأقلية الفاشل».

وكان أنطون الجميل، رئيس تحرير «الأهرام» وقتئذ ماكرًا، فنشر المقال فى مكان بارز، فهاج النحاس باشا وصاح يقول: إننا مزيفون، نحن مزيفون؟، فليقل ذلك عن الحزبين الساقطين الآخرين.. أما «الوفد»، الذى خرج من الانتخابات فائزًا هذا الفوز الساحق، فكيف يقول إنه مزيف، ومن الذى يقول ذلك؟.. موظف رسمى هو مدير الإرشاد والدعاية للحكومة.. ونهض أحد الوزراء الحاضرين يسأل كيف مر هذا المقال، ومن هو مدير المطبوعات المسئول عن مراقبة النشر؟، كنا فى زمن الحرب العالمية الثانية، وكان مدير المطبوعات وقتذاك هو محمد فريد أبوحديد، فسألوه فأجاب: إن المقال عمل أدبى. فسخروا منه وقالوا عنه إنه هو أيضًا أديب ولا يفهم فى السياسة. ونقلوه من هذا المنصب.

كذلك كنت أنا أيضًا مهددًا بالنقل، وقد جرى كلام فى إحدى جلسات مجلس الوزراء حول هذا الموضوع، ومدير الإرشاد الذى واجبه الإشادة بالحكومة فإذا به يقول عنها إنها مزيفة.. وأخذ أعضاء الوزارة فى هذه الجلسة يتداولون فى الوظيفة التى ينقل إليها، واشترط النحاس، بطيبة قلبه المعروفة، عدم المساس بالمرتب والدرجة، وجعل كل وزير يفكر، وأخيرًا تكلم أحد الوزراء، وقالوا إنه نجيب الهلالى باشا، مصرحًا بأنه وجد الوظيفة المناسبة، فصاحوا كلهم: ماهى؟، فأجابهم: وظيفة فيها كل الشروط، نفس المرتب ونفس الدرجة، ومناسبة له هو بالذات تمامًا، فلما سألوه عنها أجاب بكل جدية: وظيفة باشكاتب مستشفى المجاذيب.

فضحكوا كلهم، واعتبروها نكتة من نكات الهلالى، التى اشتهر بها.. وأنا نفسى ضحكت عندما سمعتها وقلت هو حقًا نجيب الهلالى التى يقولها، فقد كانت له مجالس أنس وضحك، لم أحضرها منذ أصبح وزيرًا، فقد كانت لى عادة تمسكت بها دائمًا، وهى عدم ارتياد مجالس الحكام. وقد أطفأت نكتته حرارة الموضوع، فلم أنقل ولم أمس. بل إننى كوفئت من النحاس باشا نفسه بعد ذلك، ففى وزارة الوفد الأخيرة عام ١٩٥٠، وكان طه حسين قد صار وزيرًا للمعارف فيها، تحدث إبراهيم فرج، الوزير فى نفس الوزارة، فى ترشيحى فى وظيفة مدير «دار الكتب» الشاغرة، وجعلته علاقته الوثيقة بالنحاس يفاتحه فى هذا الموضوع، فقال النحاس مازحًا: كده.. توفيق الحكيم الذى شتمنا، نعينه ونكافئه بالمنصب، فقال إبراهيم فرج: إنه فخر لك أن تعين من شتمك مديرًا لدار الكتب، وأى مدير هو؟، إنه أكبر مستوى فكرى يتولاها بعد لطفى السيد. فضحك النحاس باشا وقال: إنه فعلًا يستحق المنصب.

ومع ذلك لم أفكر فى زيارة النحاس أو توجيه الشكر له ولو بواسطة طه حسين أو إبراهيم فرج.

وقبل أن يغادر توفيق الحكيم العصر الملكى يعود بذاكرته إلى عهد الملك فؤاد قائلًا: 

كانت الوزارة فى ذلك الوقت هى وزارة عبدالفتاح باشا يحيى، الموالى للملك فؤاد الذى كان وقتذاك على علاقة سيئة مع المندوب السامى البريطانى، وكانت وزارة المعارف، التى نقلت إليها مديرًا للتحقيقات، وزيرها حلمى عيسى باشا، ووكيلها عبدالفتاح صبرى باشا، وكان قد عين لها منذ سنوات قليلة سكرتيرًا عامًا من خيرة رجال القانون هو محمد العشماوى بك، ولكفاءته الممتازة أصبح له فى الوزارة مركز ممتاز، أسخط عليه كبار رجال التعليم الذين كانوا يقولون عنه: هذا رجل قانون من أساتذة كلية الحقوق دخيل علينا نحن رجال التعليم. 

فلما جئت أنا إلى هذه الوزارة رحب بى ودعانى إلى الجلوس فى حجرته أغلب الوقت، وأشعرنى بأننا مرتبطان بنوع واحد هو القانون، نجاهد معًا فى بحر متلاطم ثائر من رجال التعليم. ولذكائه وكفاءته وثق به كل الوزراء واعتمدوا عليه، وكان هو المتصرف فى كل الوزارة، وأصبح مكتبه يعج بالزوار من رجال مصر المشهورين فى السياسة من كل حزب، ومن هذا المكتب رأيت السياسيين وما يحدث فى محيط السياسة، ووقعت فيما سمى وقتذاك بقضية المجانية، على غفلة منى.

طلبنى الوزير الصديق نجيب الهلالى باشا وقال لى بلهجة الجد: 

إن مكتب الوزير السابق فى العهد البغيض- كما كانوا يسمونه- كان بؤرة للأعمال المشبوهة، وعلى أنا بصفتى مديرًا للتحقيقات أن أصدر قرارى باستبعاد موظفى هذا المكتب، ووقف مديره سعد اللبان، صديق الوزير السابق حلمى عيسى، باعتباره رأس الفساد، وأن الفساد ظهر من التلاعب بمجانية التعليم والزعم بأن الوزير كان عمله كريمًا، قلت للهلالى باشا: أنت تعرف أنى كنت وكيل نيابة، ولا يمكن أن أصدر قرارًا بأى وقف أو استبعاد، أو أى إجراء ضد أى موظف إلا بعد تحقيق، فقال لى باللهجة الجادة: حقق وبسرعة.

فاستغربت ذلك من رجل قانون كنجيب الهلالى بدأ حياته مثلنا وكيل نيابة. وتحادثت فى الأمر مع عشماوى بك، ويظهر أن الوزير أطلعه على الأمر وشكا له منى مما سماه تهاونى، فقلت له: أى تهاون، إنها مجرد قضية عادية أسير فيها كما أسير فى أى قضية.وحدث أن طلبنى الوزير مرة أخرى وقال بلهجة الاهتمام: مجلس الوزراء سيعقد اليوم ولا بد أن أذهب ومعى النتيجة، وأنت لم تفعل شيئًا حتى الآن، اذهب فى الحال وأعطنى قرار الإيقاف، أنا منتظرك. وخرجت من عنده وأنا مستغرب: مجلس الوزراء، وما دخل مجلس الوزراء فى قضية عندى؟.

فنصحنى العشماوى بأن نعمل على عدم إحراج الوزير صديقنا الذى ينتظر منا المعاونة. وألمح إلى أن الوزير يقول له عنى ممتعضًا ما معناه: هذا هو صاحبنا يا سيدى.

ولاحظت أنا بالفعل تغيرًا فى علاقة الوزير بى، وخيبة أمله فى شخص مثلى.. ولكن ماذا أفعل وأنا رجل قانون، هذا عالم جديد لم أعهده فى حياتى القضائية.. عالم السياسة فى بلادنا: الحكم عندنا لعبة كرة تتقاذفها أرجل الإنجليز والسراى.. أخيرًا أنقذنى الله وحده من هذا الموقف.. ذهبت إلى مكتبى لأسير فى التحقيق وضميرى غير مرتاح، ولكن لا بد من العمل على كل حال.

بادرت بطلب أوراق المجانية التى قيل إن الوزير السابق حلمى عيسى كان يوقعها بإمضائه يمينًا وشمالًا، وكانت محل بيع وشراء.. فأرسلوا لى سلالًا كبيرة يحملها اثنان من السعاة امتلأت بهذه الأوراق التى تعد بالآلاف، فقلت: كيف أقرأ كل هذا؟.. ومددت يدى والتقطت ورقة منها.. فنظرت فيها إلى توقيع الوزير حلمى عيسى، فدهشت.. هذا توقيع أعرفه.. وأخرجت فى الحال ملفًا عندى فيه توقيع للوزير، وبالمضاهاة اتضح لى بما لاشك فيه أن الإمضاءات التى على أوراق المجانية مطابقة كل المطابقة لإمضاء الوزير الأصلية.. إذن حدث تزوير بالشف لإمضاء الوزير، واستعمل فى أوراق المجانية. وقمت فى الحال ودخلت على الوزير أقول له ليس من اختصاصى هذه القضية، إنها من اختصاص النيابة العمومية والمحاكم، وأطلعته على ما يثبت ذلك، فاضطر إلى تبليغ النيابة، وخرجت أنا منها، وحضر وكيل النيابة وكان من أصدقائى، وهو رياض رزق الله من أكفأ رجال النيابة المشهود لهم بالامتياز، وخصصت له حجرة فى وزارة المعارف يحقق فيها، وانتهى تحقيقه باكتشاف المتهم الحقيقى لهذا التزوير، واتضح أنه من غير موظفى الوزارة، وقدم إلى محكمة الجنايات، وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات.