رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دفاعًا عن أم كلثوم

المخيلة الفنية هي التي تسكّن المطربات في وجداننا، وتضع كلا منهن في حجرة خاصة من حجرت القلب، هكذا وضعنا "فيروز" في حجرة الحنين، تلك الحجرة المطلة على المرافئ والسهوب، فهي امرأة غير متحققة، بعيدة المنال، كأنها نجمة جوّابة ليس لها سكن دائم، نستمع إليها، فنحن إلى الطفولة والشواطئ وقرانا البعيدة التي تربينا فيها، و"فايزة أحمد" أجلسناها في حجرة السهرة، حيث تجتمع الأسرة مساء على الحب والتسامح، فصوتها هو صوت الأسرة المصرية، و "شادية" سكنت في حجرة مصر، ذلك أن صوتها هو صوت مصر في حالاتها كلها، وهناك مطربات أسكناهن البلكونات، وهناك أخريات أسكناهن صالة الأفراح المخصصة للمناسبات الفرحة، كالخطوبة والطهور والأعياد، كان كل ما يعنينا منهن هو صوتهن فقط، وعندما اختلطت الأمور مؤخرا، وأصبحت المطربات يرقصن وهن يغنين، ويؤدين حركات تعبيرية عن الكلام العاطفي في الأغاني، اضطررنا لأن نسكن بعضهن في حجرة النوم، لنستجلب معهن السحر الملائم لهذا المكان، أما "أم كلثوم" فمكانها الحقيقي هو الصالة، أو الريسيبشن بمصطلحات هذه الأيام، ذلك أن صوتها هو صوت المرأة المصرية كما ينبغي أن تكون، وملامحها تشبه ملامح ستات البيوت من الطبقة المتوسطة، وهي تغار على زوجها كامرأة مصرية صميمة، وتمارس معه كل تفانين اللوع والهجر والوصال.
   لماذا أقول هذا الكلام؟
   أقوله لما أثير مؤخرا من أن شاعرا مغمورا، هكذا وصفته بعض المواقع، تحدث في ندوة باتحاد كناب مصر عن الأغنية، وتطرق في حديثه، بشكل غير لائق، إلى السيدة الجليلة "أم كلثوم"، وقد ذهبت إلى اليوتيوب لمشاهدة ما قاله، وكلي يقين بأن ثمة قصا للكلام على طريقة لا تقربوا الصلاة، لكنني اكتشفت المصيبة الكبرى، وهي مصيبة لا تتعلق بالشاعر المغمور، وإنما لها علاقة وثيقة بكيان ثقيل، أو ينبغي أن يكون ثقيلا، وهو اتحاد كتاب مصر، هذا الكيان الذي ننتمي إليه جميعا، بحكم كوننا أعضاء فيه، وبالتالي فهو يمثلنا، ونحن نمثله.
 لم يقل أحد منا على الإطلاق إن "أم كلثوم" ملكة جمال، أو فاتنة، أو حتى جميلة، الوصف الحقيقي الملائم لها، هي أنها مريحة، يرتاح الواحد إليها وهو يراها، لأنها، حتى في امتلاء جسمها، دلالة على المرأة المصرية التي تنظف البيت وتغسل الملابس وتعد الطعام، ثم تهيئ نفسها لتصالح زوجها بعد هجرها له لليلتين كاملتين، أما أن يقول الشاعر المغمور إن "أم كلثوم" شكلها (ملخبط)، ويقرر بأنه رآها في حفلات المجهود الحربي، فاكتشف أن أسنانها مكسرة، وعينيها اللتين لا ترى بهما، وأكمل بقية كلامه بحركات يديه، وهي الطريقة التي سيتبعها طوال كلامه، والحقيقة، يبدو أن أحدا ما أخبره أن الأمر أمر جلسة نميمة على مصطبة، لا ندوة يقيمها اتحاد لكتاب مصر، وهي مسجلة صوتا وصورة، وسوف ترفع على منصات المواقع الإلكترونية ليراها الناس كلهم، فأخذ راحته في الكلام، وكأنه جالس ساعة العصاري على ترعة القرية، مستفردا بأناس يستمعون إلى ما يقولونه من أسرار وعورات في اذبهلال تام.
   أغرب ما في أمر هذا الشاعر المغمور أنه يتلبس ثوب العارف بتفاصيل ودقائق الحياة الخاصة لمن يحدثنا عنهم، فهو يقرر أن "أحمد رامي" بعد أن كتب أغنية جددت حبك ليه، طفشت زوجته من البيت بعد أن لمت ملابسها وسافرت إلى أهلها في الإسكندرية، وعندما عاتبته أخته على فعلته النكراء هذه، قال لها دعيني وشأني، هو في الحقيقة لأنه شاعر عامي، فإن كثيرا من كلامه غير مقول، وإنما يقوله بيديه وعينيه وتعابير وجهه، بالضبط قال لأخته:
   (سيبيني أنا)، ثم أشار بيديه الاثنتين على جانبي رأسه، وكأنه يريد أن يشير لنا على تعمير الطاسة، لنفهم نحن ما يريده، ثم بعد يديه عن بعضهما دلالة على انتهاء الكلام، وواصل: مش حاقدر اتكلم).
   وهو يحذر الشعراء المساكين أن يعيشوا في دور العاشق الولهان أمام واحدة فنانة، ولكي يضفي على كلامه هذا مصداقية ما، يقرر أنه ألف كتابا عن العاشق الولهان رصد فيه مثل هذه العلاقات كعلاقة الشاعر "عبد الوهاب محمد" بالفنانة التونسية "لطيفة"، ثم يواصل كلامه عن الشاعر "أحمد رامي" الذي يؤكد بيقين كبير، أنه شاعر لديه هطل عاطفي، وكان يعتقد أنه قبض على "أم كلثوم" بيديه وأسنانه، فقد كان ابن ناس ومتربيا ومتعلما في الخارج، وقد وقع في غرام "أم كلثوم" وهي امرأة موالدية، أي ابنة موالد، وست، بحد تعبيره، فظيعة، وكانت العلاقة بينهما تماما كعلاقة الذئب، الذي هو "أم كلثوم" بفريسته، التي هي "أحمد رامي"، وقد كانت ترقصه على الشناكل يمينا ويسارا، وهو على حد تعبيره، ولا مرة، ثم يكمل بيديه وتبريقة عينيه الكلام، فنفهم أنه لم يحتج على هذه الطريقة مرة واحدة، ويجزم بطريقته الشوارعية أثناء حديثه عن الكبار مقررا، (وكأنه بيتكيّف من البونيات اللي بياخدها منها)، ويواصل (ما يعرفش أنها لا مؤاخذة يعني تلفف عشرين واحد من عينته حواليها).
   كما يصورها على أنها محتالة وغير أخلاقية على الإطلاق في علاقاتها المهنية بالشعراء والملحنين، ويضرب لنا مثلا على ذلك، بأنها اشترت أغنيتين من شاعر شاب اسمه "علي مهدي" لتغنيهما، لكن الشاعر الشاب فرح بالحدث، وراح يحدث أصحابه بأن "أم كلثوم" ستغني له أغنيتين، لكنها عاقبته بأنها فصّصت هاتين الأغنيتين، لا نعرف كيف، وأعطت هذا الفصيص المفصوص لشعراء كبار كتبوا عليه أغاني أخرى، طبعا، هو لا يذكر لنا مصادره في هذا الكلام، وطبعا لا يذكر اسمي هاتين الأغنيتين اللتين اشترتهما، وطبعا لا يذكر لنا أسماء هؤلاء الشعراء الكبار الذين ارتضوا أن يسرقوا مجهود شاعر آخر، وطبعا لا يذكر لنا أسماء الأغاني التي كتبها الشعراء الكبار على فصيص الشاعر المسروق، لكن الحديث عن السرقة فتح شهيته للحديث عن شاعر عظيم جدا، لم يذكر اسمه بطبيعته البهلوانية، قام بسرقة أكثر من أربعين أغنية من الشاعر "فتحي قورة"، ويعرج في وصلته الردحية على كثير من الشعراء دون أي مبرر فني، فيقول إن "أحمد شفيق كامل" قدم لـ "أم كلثوم" ثلاث أغان من أفشل أغانيها، مثل أغنية أنت عمري التي كلامها كله في الهجايص، وبلا مبرر فني أيضا يقول إنه سارق أغنية (عيش معايا) التي تغنيها "نجاة الصغيرة"، من شاعر آخر، ومن يقرأ شعر "أحمد شفيق كامل" ويقارنه بهذه القصيدة يعرف مباشرة أنه سارق لها، كما يصفه بأنه شاعر ضعيف، ويعيب عليه أنه كتب قصيدة في حب الرسول، ويسأله هل عندما كتبت أغاني في الحب كنت صغيرا أم أنهم سقوك حاجة أصفرا؟،  فالله كان قادرا على أن يخلقنا حميرا نأكل البرسيم في الغيط، أو خنازير، صحيح أن الله خلق بعض الناس حميرا، وهو يعرف أنهم حمير، ولأن أحدا لم ينبهه إلى أنه في ندوة عامة وليس في جلسة مصطبة، فقد أقسم بالطلاق إنهم مهما فعلوا سيظلون حميرا، ويواصل سبابه للشاعر "عبد الفتاح مصطفى"، ويصل به الأمر لأن يسب "أحمد شوقي" الأمير، ساكن العلالي، السماء التي ما طاولتها سماء، فيقول إن أغانيه بالعامية، ويكمل كلامه بيديه كعادته، ما معناه أنها أي كلام، أو بما معناه أنه ينبغى إلقاؤها في الزبالة، فهو يحرك أصابع يديه الاثنتين في اتجاه الإلقاء أو الرمي.
   مثل هذه الطريقة في الكلام عن الشعراء والفنانين، أقل ما يقال عنها إنها طريقة عشوائية، والعيب في الحقيقة ليس عليه، وإنما على الجهة التي دعته للكلام، وسأضرب لكم مثلا على طريقته العشوائية هذه، فنحن جميعا نعرف أن الشاعر "مأمون الشناوي" رفض أن تجري "أم كلثوم" بعض التعديلات على أغنيته (الربيع)، هذه الواقعة عندما يحكيها الشاعر يقول إنه  أشار لها بأصابعه علامة على الاستهانة بها، وقال لها:
   (يا لا يا ولية بلاش كلام فارغ)، وأخذ منها قصيدته واتجه بها لـ "فريد الأطرش".
   كل ذلك كوم، والآتي كوم آخر.
   الشاعر المغمور يقرر بهدوء مبالغ فيه أن "أم كلثوم" امرأة مزواجة، ذلك أنها تزوجت أحد عشر رجلا، كما يقرر بنفس الهدوء أنها امرأة عاهرة، لأنها صاحبت أحد عشر رجلا غير الرجال الأحد عشر الذين تزوجتهم، ويقرب يديه من بعضهما ويبعدهما وهو يفضي لنا بسر خطير، تماما كالضالعين في معرفة الأسرار، قائلا، ويقال أشياء أخرى كثيرة جدا، لا يصح قولها غير الزواج والمصاحبة، يقول ذلك، وكأن ما قاله يصح قوله.
   الشخصيات العامة ليست كالشخصيات العادية، حياتها كتاب مفتوح للجميع، وأنا أحب الظنون في التاريخ، ولست أحب مدرسة اذكروا محاسن موتاكم، خاصة فيما يتعلق بالمشاهير والرموز، لكن أي كلام بلا مصدر وبلا توثيق، يظل مجرد كلام، ليس له غاية سوى التجريح والشتيمة، وهو أمر شديد السهولة، يستطيع أن يقوم به أي أحد، أما الحقيقيون، فلا بد وأن يتثبتوا من كلامهم، حتى يكون له مصداقية ما، فالشاعر المغمور عندما يصر أن يحدد معلوماته بالأرقام، يقول أحد عشر، ويكرر الرقم في حالتي الزواج والمصاحبة، وهذا يعني أنه لديه معلومات يقينية، أو على الأقل لديه مصدر فيه ذكر لهذه الزيجات، وفيه قسائم الزواج والطلاق، وأسماء البعول، هذا فيما يتعلق بالزواج، أما أمر المصاحبة، فأنا حقيقة لا أعرف كيف يمكن له بكل بساطة أن يحدده بهذا اليقين المكتمل، ويؤكد أنها صاحبت إحدى عشرة مرة، مثل هذا الكلام، يمكن بكل بساطة أن يوقعه تحت طائلة القانون، لأنه يمس السمعة والشرف.
   تبقى أن أشير إلى أن كل هذا الكلام جاء في ندوة أقامتها لجنة التذوق الأدبي والفني باتحاد كتاب مصر، فإذا كان هذا هو حالنا في تذوق الفنون، فعلى الدنيا السلام.
   والسلام.