رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى محبة شاكر عبدالحميد.. ثنائية الانضباط العلمى والعفوية المفرطة

قبل يومين مرت ذكرى رحيل الدكتور شاكر عبدالحميد، الناقد الأدبى الكبير، ووزير الثقافة الأسبق، والأكاديمى الموسوعى، صاحب الحضور المبهج، والعقل المنظم، والروح المنطلقة بعفوية مفرطة، لا حدود لها.. ولأننى كنت من بين المحظوظين بالقرب من هذا الرجل العظيم، فقد كان لى أن أرى كيف يتعامل مع كتاباته بحزم وانفتاح فى آن واحد، يناقش الأصدقاء والمقربين فيما هو مقدم عليه، ويعيد تنظيم أفكاره وفق تلك المناقشات المستفيضة، لا يغلق أذنيه أمام رأى، لكنه حين يجلس إلى أوراقه، لا يكون معه غير المنهج الذى اختاره، وعقله الذى تحيره الأسئلة، وتلاحقه، ولا تتوقف عن طرح نفسها على مائدته البحثية والمعرفية.

منذ بداياته الأولى، لم يتوقف الدكتور شاكر عبدالحميد عن طرح الأسئلة المتعلقة بعلم نفس الإبداع، المادة التى حصل على درجتى الماجستير والدكتوراه فيها، وعاش يدرسها بأكاديمية الفنون حتى ما قبل الرحيل بقليل، حتى إنه لم تعرف الدراسات النقدية فى فنون الإبداع بمثل هذا الكم من الأسئلة التى طرحها على نفسه، وعلينا نحن قراؤه ومحبوه.

ربما تنوعت الفنون التى تناولها على مدار مشواره الثرى بالبحث والدراسة، ومحاولة الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بعملية إنتاجها، على أن كتابه «الأسس النفسية للإبداع الأدبى فى القصة القصيرة خاصة»، والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام ١٩٩٣، يحتل مكانة خاصة بالنسبة لى، لما فيه من مشقة وجهد لا يتوافران لغير شخصية الصعيدى المثابر «أسيوطى المولد»، الذى لا توقفه أسئلة، ولا تحده رغبة فى المعرفة، بل تحفزه، وتثير عقله بحثًا عن إجابات مرضية ومقنعة، وهو الكتاب الذى جاهد فيه محاولًا الوصول إلى معرفة كيف تتم عملية الإبداع فى القصة القصيرة؟ من أين تبدأ نفسيًا وعقليًا؟ ما جذورها؟ وكيف تستمر؟ ما العمليات النفسية المسئولة عنها، التى ترافقها أو تسهم فيها وتؤدى إليها، أو تعرقل كتابتها؟ فى دراسة أقرب إلى علم النفس والتحليل النفسى، منها إلى النقد الأدبى، لأنها تضع المبدع وإبداعه فى مختبر نفسى وسلوكى، وتنصرف عن دراسة النص الأدبى إلى مواد التحليل النفسى المختلفة، فتجد «التركيز على شخصية المؤلف أكثر من أعماله الإبداعية، وتجد أن المحور الأساسى الذى تقوم عليه منهجية تحليل الأعمال الأدبية، هو الاستفادة من بعض المفاهيم الشائعة فى مجال الطب النفسى مثل مفاهيم الهلاوس، الهذاءات، تطاير الأفكار، اضطرابات شكل ومحتوى اللغة والكلام، الاضطرابات الوجدانية، اختلال الشعور بالذات وتفكك الشعور بالواقع، وغير ذلك من المفاهيم، ثم محاولة تحديد مدى معرفة الأديب المبدع بهذه المظاهر المختلفة من الاضطراب بطريقته الخاصة وقدرته على رصدها وتحليلها»، وهى بالأصل موضوع رسالته للماجستير التى نوقشت عام ١٩٨٠، بإشراف العالم الدكتور مصطفى سويف، رائد هذه الدراسات فى الوطن العربى، الذى قدم للكتاب، مشيدًا بالموضوع وصاحبه، وبمعالجته المبتكرة والدقيقة لكثير من «الأطر النظرية الذائعة بين علماء النفس، كما يعالج موضوعين من أكثر الموضوعات جاذبية بالنسبة للأدباء والشعراء والفنانين عامة، وهما موضوعا الصور العقلية والخيال الإبداعى».

والحقيقة أن الدكتور شاكر عبدالحميد أخلص لدراسة الأداب والفنون بأدوات علم النفس والتحليل النفسى، وتكرر ذلك فى كتاباته عمومًا، ومنها كتاب «الأدب والجنون» الصادر فى نفس العام عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، الذى يتعرض لقضية لا تزال موضع خلاف، هى قضية العلاقة بين الإبداع الفنى والمرض العقلى، ومهد لبحثه بلمحة عن تاريخ المرض النفسى، والمرض العقلى، والتداخل بين الخيال والأحلام والواقع، وعالج حالات محددة فى تاريخ الأدب العالمى، شكسبير بين الجنون والتظاهر بالجنون، دستويفسكى ومشكلة القرين، وسترندبرج ودفاع رجل مجنون، وكافكا ضد بلزاك، على أننى أظن أن الكتاب الذى يلى تلك السلسلة من الدراسات فى علم نفس الإبداع من حيث الأهمية، هو كتابه المهم «التفسير النفسى للتطرف والإرهاب»، الصادر عن مكتبة الإسكندرية عام ٢٠١٧، الذى يطرح فيه رؤية عميقة حول ظاهرة الإرهاب، وجذور التطرف، وكيف ينشأ، ولماذا استشرى فى أنحاء العالم، منطلقًا من حقيقة أن «الإرهاب لا ينتسب إلى دولة دون أخرى، ولا يمكننا أن ننعت به دينًا دون آخر، ولا ينتمى الإرهاب لطبقة اجتماعية واقتصادية معينة، ولا لاتجاه فكرى أو سياسى ماركسى يسارى أو فاشى يمينى، والإرهاب ليس حكرًا على العسكريين ولا هو مصمم للمدنيين الغوغاء»، فى محاولة لفهم أسباب تلك الكارثة التى تحيق بنا منذ عقود، وما زالت تداعياتها تتفاقم بلا توقف، والذى يقول الدكتور شاكر عبدالحميد فى مقدمته «إن الإرهاب طاعون العصر، يكره البهجة والابتسام والتغيير والإبداع، ويعشق الظلام والدماء والتشفى، يتقافز بين التفجيرات والاغتيالات والجثث والتكفير والتحريم والاكتئاب، يتبنى الأفكار الجامدة الهدامة، يمتلك المال والسلاح والحجج البالية، فهل يمكن استيعاب هذا الوحش وإيقافه؟. 

على أن السؤال الذى لا يزال يستوقفنى كثيرًا، ذلك الذى يختتم به الدكتور شاكر عبدالحميد كتابه: «هل الأيديولوجيات تدفع للإرهاب؟ قائلًا: «هناك تعبير يقول إن تحت جلد كل أيديولوجى يوجد إرهابى، ما صحة هذا الكلام، وهل يعنى بالضرورة أن الأيديولوجيات هى مسبب رئيسى للإرهاب؟».

من شاهد أوراق شاكر عبدالحميد، أستاذ علم نفس الإبداع، ومسودات مقالاته النقدية، حتى تلك التى كان يقرأ منها فى بعض الندوات، يعرف طبيعة تكوينه الشخصى، وندرة أن تجود الحياة بأمثاله، يعرف أنه بعيدًا عن ضحكته الرائقة، وروحه العذبة التى تضفى البهجة حيث حلت، هناك، فى تلك المسودات، يمكنك أن ترى ذلك التلميذ المجتهد، والعالم المثابر، المنضبط فكريًا، الذى يشطب، ويعيد ما كتبه مرة واثنتين وعشرًا، ويحافظ على وتيرة تطوير أفكاره وتصوراته عن الحياة، والفنون، والكتابة الأدبية على وجه الخصوص، يضيف جملة هنا، وكلمة هناك، فقرة هنا، ويحذف سطرًا هناك، وحين يبدأ فى قراءة ما انتهى إليه من مقدمات ونتائج، تراه يعيد صياغة ما هو مكتوب وفقًا لتغير مزاجه ورؤيته، وتطور فكرته، ويظهر وجه الناقد الملتزم بمناهج البحث العلمى، وأساليبه، وصياغاته، وطزاجة أفكاره.. ومحبته للحياة والفن، وصناعة البهجة أينما حل.