رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«تشريح الرغبة» للمغربية ريم نجمى: مثلث ميلودرامى دون ميلودراما

فى رسالته إلى حبيبته «جورى» يقول «عادل»: «قلتِ إنك نسيتِ مظلتك فى المترو، لكنى سمعتها: كنتُ أفكر فيك إلى درجة أنى نسيت مظلتى فى المترو»، هذه طريقة بديعة ومختصرة لفهم قدر سوء التفاهم الذى نفرضه على أنفسنا حين نُحب، وحين- وهذه مفارقة مدهشة- حين نكره، أو لنقل حين يفتر حبنا، لأن الحب- وهذه حقيقة دامغة فى العلاقات الإنسانية- يفتر مع الوقت أو بسبب الوقت.

فى روايتها «تشريح الرغبة»- الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية- تبدو الشاعرة المغربية ريم نجمى وكأنها على مقعد فرويد، ليس فحسب لأنها تشرّح الرغبة «عنوان روايتها»، ولكن أيضًا لأن الرغبة المشار إليها أكبر من أن تُختصر فى الرغبة الجنسية. إنها الرغبة بالمعنى الفرويدى أو الليبيدو.. والليبيدو هو طاقة غريزية لدى البشر يقاومون بها حقيقة أنهم يولدون إلى جوار قبورهم- حسب التعبير الإنجيلى- طاقة تدفعنا إلى امتصاص الحياة ومتعتها حتى لو تسببت فى تعاستنا وحتى، أيضًا، لو تسببت فى انقضاء أعمارنا، وحتى لو أتعسنا الآخرين ومرّرنا حياتهم.

فى روايتها مثلث ميلودرامى تقليدى: زوج وزوجة وعشيقة، لكن دون الميلودراما المعتادة فى هذا النوع من القصص، وهذا أحد أسباب المتعة التى يحسها قارئ هذه الرواية، إضافة إلى أسباب أخرى بالطبع مثل اللغة التى كُتبت بها.. زوج مغربى تجاوز الخمسين يقرر الانفصال عن زوجته الألمانية يوليا بعد مرور خمسة وعشرين عامًا على زواجهما بعد وقوعه فى غرام «جورى»، اللاجئة السورية باحثة الماجستير الشابة.

تفريغ المثلث الميلودرامى من ميلودراميته اللاذعة يتم ببراعة روائية: أولًا عبر تأجيل اكتمال المثلث إلى الفصل الثانى؛ فبعد أن نكون قد تماهينا- كقراء- مع «عادل ويوليا»، وبعد أن نكون فقدنا قدرتنا على معرفة إلى أى جانب سوف نقف تداهمنا المفاجأة: مفاجأة وجود شخص ثالث. 

وثانيًا عبر تشتيت التعاطف تجاه الزوجة «وهو التعاطف الذى يعزز الميلودراما فى مثل هذه الموضوعات» قبل اكتشاف وجودها كضحية- ضحية مجازية. وثالثًا عبر تبدل المواقع التى تتخذها الشخصيات، ففى الميلودراما تتخذ كل شخصية موقعها ولا تبدله باعتبار أن لها مواقع بنيوية فى القصة، أمر أشبه بالطيب والشرير فى الأفلام الرديئة، لكن تبدل المواقع هنا يُفقد كل شخصية خصائصها التى يفرضها الموقع، خصوصًا باستحضار شخصية «ألفونسو» صديق «يوليا» الذى يمكن وصفه بأنه عشيق شبح، وبالتالى فإن مصطلح الضحية مثلًا «وهو مصطلح مهم فى الميلودراما» لا يمكن لشخصية من شخصيات الرواية أن تنتزعه حصريًا لنفسها، فكما فى الأفلام الجيدة لا وجود لطيب أو شرير، فهنا لا ضحية ولا جلاد، لا ظالم ولا مظلوم. نسمع صوت يوليا تقول: «لم يكن يهم القاضية فى تلك الجلسة سوى تسوية الملكية والتقسيم العادل لمبالغ التقاعد.. ولم يهمها التقسيم العادل للألم والشعور اللا متناهى للخسارة.. أين هو العدل فى كل ذلك؟.. لا أفهم هذا القانون الذى لا تهمه التفاصيل، لا يهمه من تَرك ومن تُرك، من خان ومن صان، من ظلم ومن لم يظلم»، لكن هذه العبارة- التى نصدقها فى حينها- تبدو كعبارة يمكن لأى من الشخصيات أن تقولها وسوف يكون لزامًا علينا أن نصدقها، فقد ألزمنا السرد بأن نتعاطف مع الجميع بنفس المقدار.

يقول «عادل» مبررًا موقفه الظالم لجورى: «أرجوك انظرى إلى الصورة كاملة، إلى كل الظروف التى كانت محيطة بى ساعتها، مخاوفى، إنهاء الرواية، التواصل مع المحامى، جمع الوثائق، بيع البيت، ومراسلة خمسمائة جهة ومؤسسة لتغيير عنوانى وبياناتى»، هذه أيضًا عبارة كان يمكن ليوليا أو لجورى أن تقولها دون أن تخسر معناها، فالبشر الذين يعرفون تمام المعرفة أنهم على حافة النسيان سوف يقاتلون لوشم حضورهم على جبهة العالم، لكنهم أثناء القتال لا يعرفون ما يخسرونه ولا عدد الضحايا الذين يسقطون. يطلب عادل مثلًا من جورى ألا يكون لديهما نموذج علاقة موحد، ألا يكون لديهما «كود» لما يجب ولما لا يجب أن يفعلاه، لكن هل يمكن لعادل نفسه أن يفعل ذلك؟ بالطبع لا، لأنه فى غمار قتاله يتجاهل أن «يوليا» تُقاتل من أجل الإبقاء عليه، وأن «جورى» تقاتل من أجل الاستمرار، لهذا فإنه- كشخص ضجر من علاقة زواجه ويشعر بالغبن بسبب استبداد «يوليا» المتوهم- يمارس استبداده على «جورى»، وكما يحاول الإفلات من «كود» العلاقة الذى خلقته يوليا، فإنه يحاول فرض كوده الخاص على جورى بينما يحاول أن يجنب نفسه كودها الخاص، هنا يبدو الجميع كأن لديهم خطة لإتعاس الآخرين ويبدو أنهم تواطأوا على ذلك.

هنا يمكن- ودون إغفال الجانب النسوى فى الرواية- القول بأن الذكورة والأنوثة أمران هامشيان فى هذه العلاقات المتشابكة، فعلى الرغم من ذكورة عادل وأنوثة يوليا وجورى، فإن المسألة الأكبر التى تشكل علاقتهم الثلاثية هى الذكريات التى تخص كلًا منهم. الذكريات هنا بمعنى التاريخ الذى أسس لحضور كل شخصية منهم فى العالم، فلا يمكن تجاهل أن عادل ليس مجرد رجل لكنه رجل من المغرب، كان فقيرًا قبل أن يصبح كاتبًا ومحاضرًا جامعيًا، وهو رغم انحيازه الفكرى للغرب فإن هويته القارة فى عقله هى التى تشكل مسارات حياته، حتى إنه يقارن بين نسائه وبين شقيقاته اللاتى لم يغادرن المغرب ولا قريتهن الفقيرة، كما أن يوليا هى امرأة ألمانية أحبت رجلًا عربيًا ومسلمًا وأصرت على الزواج منه رغم اختلافهما فى الهوية والدين وتشعر بالتفوق جراء ذلك، كما أن جورى هى فتاة سورية لاجئة ومسيحية وتشعر بأنها معلقة على خريطة العالم ولا ينقصها قصة حب مؤلمة.

يقول «عادل»: «الذكريات كالوشم لو نجحنا فى التخلص منها يبقى أثرها وشكلها على جلدنا» لكن عادل مخطئ، لأن أى شخص لا يمكنه النجاح فى التخلص من ذكرياته.

كُتبت الرواية كرسائل متبادلة بين الشخصيات الثلاث، فأتاح لنا ذلك الإنصات لأصوات ثلاثة، وهو الأمر الذى نجحت فيه ريم نجمى ببراعة شديدة، فنحن نكاد نسمع نبرة صوت كل منهم فى الرسائل التى يكتبها. ولأن عادل هو الشخص المشترك فى الحكاية- وبالتالى فإنه الشخص الذى يكتب مرة ليوليا ومرة لجورى- فقد أمكننا ليس فحسب الإنصات لصوته فترة أطول لكن أيضًا الإنصات لصوته وهو يُبدل موقعه، فالشخص الذى يبدو عقلانيًا ومفتقدًا للمشاعر وهو يخاطب يوليا، هو نفسه الشخص المغرق فى عاطفيته وهو يخاطب جورى، وهو الشخص الذى يغرق فى عاطفيته مع جورى حين يحاول الإيقاع بها، لكنه الشخص الذى يغضب ويشعر بالضجر حين تحاول الإفلات من قبضته.. يوليا أيضًا لديها صوت لكن نبرته تتغير بعد اكتشافها وجود جورى.. الأخيرة أيضًا لديها صوت لكن تتغير نبرته بعد أن تقرر هجران عادل.

جمال الرواية فى أنها حافظت على أطراف المثلث دون أن تدفعنا- كقراء- إلى الإفراط فى التعاطف تجاه شخصية من الشخصيات ولا إلى الإفراط فى كراهية شخصية ما، فحتى الأوقات التى نشعر فيها بالغضب فإننا لا نملك إلا الشعور بمدى البؤس الذى تغرق فيها حيوات ثلاث.. وجمالها فى أنها حافظت على نبرة صوت كل شخص وفى الوقت نفسه برهنت على أننا مجموع أصواتنا المتعددة.