رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فواكه وخضروات

محمد عبد المنهم زهران
محمد عبد المنهم زهران

أنا «أحمد عبدالجواد سرور» الشهير بأحمد سرور، «أحمد سرور» فقط، رغم أن هذا كان يغيظ «بابا»، ويدفعه إلى أن يقوم بتعديل توقيعى على لوحاتى الأولى، ليضيف اسمه، واضعًا علامة «×» بين أحمد وسرور.. ولأن «بابا» معلم لغة عربية، فقد قام بالتعديل ووضع علامة «×» بقلم أحمر!! رغم كل شىء، فمن الجميل أنه تذكر تنبيهاتى المتكررة بأن تقييم اللوحات لا يتم بإعطاء درجة من عشر درجات أعلى يسار اللوحة، لذا فقد بدت تقييماته الشفوية مضجرة بالنسبة له، ولكى أكون أمينًًا فقد كان هذا فى البداية فقط، إذ إنه بمرور الوقت تفهم بابا الآتى: اختصار اسمى لا يشكل أى إساءة له، وأن المسألة تتعلق بميزة الخصوصية والابتعاد عن تشابه الأسماء النمطى والمقيت، ذكر لى أيضًا أمرًا أدهشنى يتعلق بإيقاع الاسم، واندهشت أكثر عندما تجاوز حد التفهم إلى الإعجاب. 

بابا بالنسبة إلىّ خيارة، خيارة كبيرة وخضراء جدًا، لم أقل له هذا طبعًا، فهناك أشياء كثيرة من الجيد أن تحتفظ بها لنفسك، كتصورى الشخصى بأن الناس ليست معادن أبدًا كما يقول المثل الشعبى، وإنما هم ببساطة فواكه وخضروات.. أن يكون بابا خيارة كبيرة وخضراء لهو شىء ملهم جدًا وبرّاق لى شخصيًا، ويدفعنى قليلًا إلى الاحتفال، فالخيار داعم جدًا لكل ثنايا جسدى، قد لا أحبه، وأغلب الظن أن كل الناس لا يمنحونه القدر اللائق به فعلًا فى بعض الأوقات، فهو ليس حلوًا ولا مالحًا، لأن بابا يكره الحلو والمالح، ولكنه فى كل الأحوال يقوى القلب، ويمنحك طاقة البقاء. 

فى بعض اللحظات أشعر بالارتباك إذ لا أتمكن من تحديد من أتحدث عنه تحديدًا، بابا أم الخيار؟ يبدو الأمر مربكًا فعلًا.. ولكن العلاقات بينهما وثيقة الصلة، فى النهاية بت أعتقد أن الأمر بسيط ولا يخرج زبدًا عن الإطار المتماسك الذى أتحدث عنه.

ماما بالنسبة إلىّ ربطة بقدونس، وعندما كبرت قليلًا، تحولت إلى ربطة سبانخ، أمى دائمًا ربطة متينة تجمع أشياء كثيرة من نوعها.. ربطة بقدونس خضراء ولها رائحة الحياة، وحين تُغلى فى الماء لوقت طويل لشربها على معدة خالية فإنها تطرد كل الأشياء السيئة، بما فيها السحر والحسد.. ولأن مغلى البقدونس يصفى الجسم ويتركه أبيض بللوريًا؛ أعتبر «ماما» سبب نقاء العالم، وأحيانًا أشعر بأنها تفاحة خضراء كبيرة جدًا، وفى الجلسات العائلية أنظر لها باعتبارها ثمرة طماطم، وفى مرات قليلة تكون بصلة، فتدفعنى للبكاء.

فى أوقات تالية كنت أتجاوز هذا كله، وأنظر إلى أمى باعتبارها سوق خضروات وفواكه، سوقًا كاملة بمفردها، لهذا فقط هى أمى! 

اليوم تركت اللوحات بأمان، لكل التفاهمات التى توصلت إليها مع أبى، ولأنه كف عن تقييم لوحاتى، فقد رأى أننى فى الأيام الأخيرة قد تحولت إلى مهلوس!

خرجت لأقابل «كوسة»! هل أبدو مرغمًا فى كل مرة على ذكر الاسم ومقابله؟! كوسة هى صديقتى التى لن أذكر اسمها، سأكتفى فقط بكوسة.. هى كوسة لأن لديها حلولًا لكل شىء، ولا أفهم سر ارتباط هذا بالكوسة، فى الغالب هناك أشياء كثيرة، وعليكم أن تخمنوها، إذا ما واجهنا مشكلات فى أى مكان لا يكون علينا سوى الاتصال بكوسة لتتولى معالجة كل شىء.. فى آخر مرة لجأت إليها لاستخراج شهادة ميلاد من السجل المدنى، اقتادتنى من يدى إلى الموظف الذى شتمته واتهمته بالرشوة، لم أدرِ كيف جرى الأمر، رأيته ينظر إليها ولمحتُها وهى تشير إليه بيدها إشارات تعنى بوضوح أننى مختل! وفجأة تحولت نظرته إلىّ من تحدٍ سافر إلى تعاطف عجيب، وكريه!! عندما خرجنا قلت لها بغضب إنها كوسة حامضة، فأخرجت لى لسانها وهددت بتمزيق الشهادة، فاعتذرت! 

قابلتها على المقهى وانتظرنا بطاطس وفاصوليا وفراولة وموزة، هل تهتمون بالذكورة والأنوثة؟! أنا لا أهتم، ولأنهم أصدقائى وصديقاتى فهم فقط على هذا النحو:

بطاطس وفاصوليا وفراولة وموزة فقط، بالإضافة إلى كوسة وقد عرفتموها، لا تنتظروا منى شيئًا إضافيًا! أعمارنا بين العشرين والخمسين!! هذا مدهش بالنسبة إليكم طبعًا، ولكننا أصدقاء.. بطاطس يملك مكتبة كتب ورثها عن والده، وفاصوليا عازفة كمان، فراولة يكتب الشعر وهو سبّاك أيضًا ويسكر طوال الوقت، موزة هو صديقى المقرب لأنه هادئ مثلى. 

كنا نتحدث عن أمور تخص تنظيم معرضى الأول، وفجأة تحولوا جميعًا لنقاد! ربما لأنهم يعتقدون أننى أصغرهم! قالوا إن المعرض لن ينجح، وقالوا إننى ما زلت، حتى الآن، أفتقد عالمًا يخصنى وتشكيلات وتكوينات باسمى أنا، وكثيرًا من الكلام المنمق على هذا النحو! تذكرت فجأة الخيار، وقلت إنها مؤامرة!! 

تحملت ثقل الكلام لأننى أثق بهم، وبإحباط بطيخة حمراء سقطت على الأرض وتحطمت قررت ألا أعرض اللوحات، صمتوا وتأملونى، فقلت ببرود قشرة بطيخة وبداخلى أحمر مشتعل: إننى سأبدأ من جديد، فهمت أن كل لوحة هى عمل جيد كما كانوا يقولون، ولكنهم معًا يفتقدون خطًا، حركة منسجمة ومتناغمة.. آمنت بذلك بمرور الوقت وأغبطهم فى نفسى، لأنهم أصدقاء.

جاء كرنبة النادل، ووضع أمامنا القهوة، فانشغلنا بالقهوة، وواصل بطاطس وكوسة قفشاتهما مع كرنبة قبل أن يبتعد، اقتربت فاصوليا من فراولة وتحدثا بهمس ففهمنا أن الكلام عن قلقاسة التى يحبها فراولة، وكنا نعلم أن فاصوليا تنهره لغيرته الحمقاء، وكان ينصت لها بوجه غاضب، وفكرت فى أننى لم أحب أبدًا، فتضايقت أكثر!! اقترب موزة منى وقال إنهم قرروا مصارحته بوجهة نظرهم لأنهم يعتقدون أننى لست مستعدًا بعد، قال لى ألا أغضب، وكنت غاضبًا فعلًا، وكنت أفكر فى الحب، تأملتهم جميعًا، كلُ له حبيبة أو حبيب وأنا لا شىء، كانوا يتحدثون وبدأت أفكر بأن الناس ألوان، وكل لون يحمل تركيبًا شديد التعقيد من ألوان أخرى، وتساءلت عن لونى؟! 

انتهى الجدال بين فاصوليا وفراولة إلى لا شىء، وارتفع صوتاهما، فتدخل موزة الهادئ، وتعمقوا فى تفاصيل حمقاء لأن فراولة لا يريد أن يعترف بأنه غيور، وأن غيرته تفسد كل شىء. 

فى هذه اللحظة حمل بطاطس كرسيه وجلس بجوارى، قال ببساطته التى أحبها: أعلم أنك تضايقت، ولكننا لن نسمح لك أبدًا.. حكى عن تفاصيل كثيرة لمعارض فاشلة، وكنت أنظر إليه وإلى الأرض وأهز رأسى، ثم طرأ على ذهنى تساؤل مدهش: ما هو اسمى بالنسبة إلى الخضروات والفاكهة، واندهشت لأننى لم أرَ فى نفسى شيئًا محددًا. فى نهاية هذه الجلسة المؤلمة بالنسبة إلىّ، وبعد شرودى الطويل اكتشفت فجأة أننى حبة رمان، أحببت هذا دون أن أكون متأكدًا، ودون أن أعلم سببًا أيضًا.

عندما عدت إلى المنزل سألنى خيارة عن المعرض، فقلت إننى قررت تأجيله فاندهش، وخرجت حديقة خضرواتى وفاكهتى من المطبخ وابتسمت لى فنسيت كل شىء، غضبى وحنقى، ودخلت حجرتى.

عدت أتساءل عن كينونتى بين الخضروات والفاكهة، ناهيك عن لونى، باعتبار أن الناس ألوان أيضًا.. أنّبت نفسى لأننى تشاغلت بالآخرين، فى هذه اللحظة عاودتنى فكرة الرمان، واعتقدت فعلًا أننى حبة رمان.. بينى وبينكم لم يكن هذا مؤكدًا بالنسبة إلىّ، كان مجرد خاطر، وعندما بدأت أرسم أدهشنى الأحمر المبهج والقرمزى والأبيض، وبدت رأسى كتلة معقدة من حبات الرمان.. بعد أيام عندما انتهت أولى لوحاتى بعد جلسة المقهى، اندهشت!! كان خليط ألوانى مرعبًا بالنسبة إلىّ، وخطرًا بتشكيلات معقدة، ولكنها ممتعة ورائقة فى نفس الوقت، عندما شاهدها خيارة نظر إلىّ وقال: لا أصدق! هلوساتك أصبحت مفهومة.. ماذا فعلت؟! 

تأملت اللوحة فى غرفتى، صنعت لها بروازًا وعلقتها على حائطى الرئيسى، تأملتها من بعيد، وقلت: يا الله!! أنا رمانة مذهلة!!

حملت اللوحة إلى المقهى، ووضعتها أمامهم!! وقلت: الأولى.. 

كنت على يقين فعلًا بأنها أولى لوحاتى الحقيقية، كنت أصغرهم، ولكنهم تحدثوا عن عبقرية الألوان والتشكيل، الآن لم أرهم نقادًا، رأيتهم يتحدثون عن روحى، فعرفت أننى نجحت! 

لا أعلم تحديدًا لماذا أحكى هذه الحكاية، ربما باعتبارها قصة نجاحى فى أن أرسم شيئًا حقيقيًا، ولكن لم تكن هذه نيتى منذ البدء، أنتم تعرفون، لقد كنت أحكى عن شىء آخر جميل، عن أبى وأمى، وعن أصدقائى طبعًا، باعتبارهم فواكه وخضروات عالمى المحبب، فى نهاية جلسة المقهى تحدثت إليهم لأول مرة عن أسمائهم بالنسبة إلىّ وعن اسمى أنا، وقلت تصورى الذى توصلت إليه، شجعنى على هذا تلك البنت الجميلة التى رأت اللوحة من المنضدة المجاورة ولم نكن نعرفها، أعجبتها فاقتربت، وبدأ بينها وبين الأصدقاء حوار عن لوحتى، ووجدتنى أتحدث مأخوذًا، إليها وإلى الأصدقاء قلت إن العالم من حولنا حديقة فواكه وخضروات، ولكننا نتعامل معه أحيانًا باعتباره حديقة حيوانات! أشرت إلى المقهى حولنا، وقلت إنه يعج بثعابين ونمور وضباع، وكذا بحمام وضفادع وأسماك، وأحيانًا حشرات بق! وعندما سألتنى البنت عن لقبها الذى تصورته لحظة رؤيتها، قلت ببساطة وبهدوء عجيب إنها لا تنتمى إلى فواكهنا وخضرواتنا ولا تنتمى إلى عوالم الحيوانات والأسماك، حدّق الأصدقاء فى وجهى، ولكننى تجاهلتهم وتحدثت إليها مباشرة: أنت تنتمين إلى السماء، ليس باعتبارك ملاكًا وإنما سحابة بيضاء قاتمة تتحرك ببطء وتهطل أمطارًا أينما حلت.. قلت أيضًا بصراحة أدهشتنى: وهكذا وقعت فى حبك دون أن أفهم لماذا.