رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زيارة جديدة لـ شادى عبد السلام.. قصة حب فى السلك الدبلوماسى

شادي عبد السلام
شادي عبد السلام

"ليس للمرء سلطان أكبر أو أصغر من نفسه"
ليوناردو دافنشى

كان المصرى القديم مشغولاً بتدوين التاريخ ومعرفة تراث الإنسان وماضيه وتسجيل ما تم رصده لكل حاكم فى مصر القديمة، ولقد كان "شادى عبدالسلام" يعيش بيننا كأحد هؤلاء الحكام فى مصر القديمة الذين بحثوا فى أسرار النفس البشرية ودفائنها عبر مختلف العصور، فلم يكن "شادى" فى حقيقته بعيدا عن الدور الوحيد الذى لعبه ممثلا فى فيلم "طومان باى" من إخراج "عاطف البكرى" وهو دور قصير لقائد مملوكى، لذا حينما علم المخرج وكاتب السيناريو "محمد كامل القليوبى" بمرض "شادى"- وكان يعد رسالة الدكتوراه بموسكو- بدا الأمر بالنسبة له وكأنه دعابة سمجة، غير قابلة للتصديق، فالفراعنة لا يمرضون، وما برديات الطب إلا نصائح للأجيال القادمة.

لذا سوف ندون هذه المرة ما يشبه مذكرات أو سيرة فرعون آخر، هو "شادى عبد السلام" من خلال ما قاله فى حواراته الصحفية وما كتب عنه من مقالات وشهادات لكننا آثرنا أن نصمت تماما لنترك له الحديث لكى يكشف لنا عن ذاته، فليس للمرء سلطان أكبر من نفسه كما يقول دافنشى، ولم نضف إلى ما قاله شيئا، فهو ليس بحاجة إلى كلماتنا، بل ربما نحن فى أشد الحاجة، لأن نتفهم كلماته ونعيها جيدا إذا أردنا أن ترقى السينما المصرية، فقط قمنا باقتباس ما قاله وترتيبه متمنين أن يخرج الحديث كما لو كان نابعا من "شادى" أو كما لو كان نابعا من أحد الفراعنة الذين لا يموتون، لقد أردت لـ"شادى عبدالسلام" أن يتحدث كما لو كان فى مكتبه، يملى علي أوراقه من الذاكرة، يتحدث عن أفكاره وحياته بمراحلها المختلفة كما لو أنها فيلم سينمائي يراه وحده ويحكيه. 


شادي وأخته مهيبة بعمر الـ6 سنوات

لم أنقطع عن الذهاب إلى بيتنا
يحكي شادي كما نقل لنا مجدي عبد الرحمن في مقاله المعنون بـ"يوم أن تحصى السنين" بمجلة القاهرة ديسمبر 1994 فيقول: "من وجه قبلى، ابن عائلة محافظة من عائلات المنيا، لم نكن إقطاعيين لأننا لا نملك الكثير من الأرض ولم نكن فلاحين لأننا لم نزرع الأرض، ولكن المهنة الغالبة على رجالنا كانت التدريس، والدى كان محاميا انتخب ثلاث مرات نقيبا للمحامين فى مصر، اسمى شادى محمد محمود عبد السلام الصباغ السكندرى، ولدت فى الإسكندرية عام 1930 حيث يوجد فرع من العائلة، ولكنى لم أنقطع عن الذهاب إلى بيتنا فى المنيا طوال حياتى، بالطبع أنا ابن الصعيد، أحببت المنيا، أحببت فيها كل شىء، المنازل، الملابس، طريقة الكلام، التقاليد والعادات، الصفات الأخلاقية، إن لون أهل الصعيد هو اللون الذى يريح عينى".

مرفأ الأمان ومرآة الذات
في حوار أجراه الناقد السينمائي كمال رمزي عام 1980 من إعداد الناقد السينمائى مع شادى عبد السلام فى عيد ميلاده الخمسين يقول شادي "إسكندرية كان المجتمع خليطا يغلب عليه الطابع الأجنبى، وكان الأجانب فى معظمهم مجرد سماسرة، ومقامرين، وتجار، وجواسيس، ومغامرين، مجتمع صوره "لورانس داريل" فى رباعيته الشهيرة.
حقا، كان فى الإسكندرية طبقة من المصريين الشعبيين، ولكن الأجانب كانوا القوة المسيطرة، واعتبروا أنه من العار أن يتحدث أحد باللغة العربية، من هنا كنت أحب الصعيد أكثر، كنت أشعر أنى فى بيتى، أقول ما أريد بحرية وراحة ووضوح، فوجود الأجنبى لا بد وأن يشعرك بحرج ما، ولكننى الآن أحب الإسكندرية بقوة، بعد أن زال سبب ضيقى منها، إنها مدينة واضحة المعالم، على عكس القاهرة، إلا أنه فى النهاية، يظل الصعيد بالنسبة لى، مرفأ الأمان، ومرآة الذات.
فى "كلية فيكتوريا" تعلمت الكثير، وتعرفت على الأدب العالمى، وبدأت أزاول التمثيل، قمت بعدد من الأدوار، لعل أهمها "هنرى الخامس" لوليم شكسبير، وهناك أخذت أهتم بتصميم الملابس والأزياء التاريخية.
ثم جئت إلى القاهرة عام 1950 حيث التحقت بكلية الفنون الجميلة، قسم العمارة، فى القاهرة بدأت أعايش المبانى القديمة، وأتأملها، وأستوعبها، ولا شك أنها هى التى استوعبتنى، الأمر الذى أدى إلى اهتمامى بالتاريخ".


شادي عبد السلام شابا


ثورة 52
كان والدى ضد القصر وضد الاحتلال البريطانى طبعا، وقد قامت الثورة فى شبابى وراقبت كل ما يحدث ولكن من بعيد، إننى أقف ضد كل أشكال القهر الاجتماعى وأجد نفسى دائما على اليسار، ليبراليا. نعم بكل تأكيد وإن كنت أفضل مرة أخرى أن أقول إننى صعيدى، إن الصعيد هو مصر الحقيقية، مصر الفرعونية.

عائلتى لا تملك فنانا.. ولم أتمكن من دراسة المسرح
وفي الموضوع المشار إليه سابقا لمجدي عبد الرحمن يواصل النقل عن شادي "ليس هناك فنان واحد فى عائلتى فقد بدأت أرسم منذ طفولتى، والحق أن أحدا لم يشجعنى وفى الوقت نفسه لم يمنعنى من مزاولة هوايتى، وقد حاولت أن أقرأ ولكن مكتبة والدى كانت قاصرة على كتب التاريخ والقانون الصعبة، فى سن الثالثة عشرة لم يكن هناك مفر من القراءة إذ رقدت عامين فى الفراش حتى الخامسة عشرة لأن طول قامتى المتزايد كان يعرض قلبى للخطر، وبعد هذين العامين صارت حركتى أبطأ وأصبحت انعزاليا إلى حد ما، عاطفيا جدا وبليدا جدا فى الدراسة، فى البداية سافرت إلى أوروبا لأول مرة وكان عمرى تسعة عشر عاما، ذهبت إلى باريس ولندن وروما، كنت أريد أن أدرس المسرح، ولكنى لم أتمكن من ذلك، وعدت لأدخل كلية فيكتوريا، حيث أتقنت اللغة الإنجليزية وعرفت شكسبير الذى تأثرت به كما لم أتأثر بأى كاتب آخر، وعلى العكس من فترة الدراسة فى فيكتوريا، حيث كنت لا أقرأ ولا أهتم بالمعرفة، بدأت أقرأ بنهم وأنا فى كلية الفنون، وفى عام 1954 تخرجت فى قسم العمارة".

استفدت من فلسفة العمارة بالسينما
في حوار آخر لشادي مع نبيل فرج أعاد الأخير نشره في كتاب "حوارات سينمائية" يتحدث شادي عن العمارة، فهي بالنسبة له "عبارة عن تهذيب وترتيب للأفكار، وهى فن توظيف الأشياء فيما هو نفعى، ولهذا تعتمد على الاقتصاد فى التعبير، وهذه هى المنطقة المشتركة بينها وبين السينما.
فى العمارة لا يبنى جدارا أو غرفة ليس لها لزوم، كل شىء مسبب منظم ومركز، وهذا الاقتصاد الذى تربيت عليه معماريا يعد فى الحقل المرئى ضرورة لا مفر منها، ولأنه ليس فى فن العمارة جديد غير مواد البناء والتصماميم مشروطة بالمساحة والممول، مما يجعل فرصة الابتكار فيها محدودة، لذلك اكتفيت من العمارة بفلسفتها لا أنماطها، كيف يقام البناء؟ ما غرضه؟ وقد ساعدنى فى الدراسة والتفكير الفنان رمسيس ويصا واصف والمهندس حسن فتحى، لأن عماراتهما مسببة، وقضيتهما لها جذور ومرتكزة من خلال البحث والتحليل، على منطق ما يناسب البيئة من المساكن لا مجرد السكنى أو الريح".

شادي مع الكاميرا الخاصة به

تاريخ العمارة وعلاقتها بالسينما
يواصل شادي حديثه مع نبيل فرج فيقول: "فعندما ندرس تاريخ العمارة بما فيها من طرز مختلفة فى بلاد مختلفة نجد دائما أنها لم توجد نتيجة ذوق أو زخرفة، وإنما نتيجة للاحتياجات الاجتماعية الملحة التى بدأت بالسكن كمأوى للإنسان ومأوى عائلته وفيه تخصص أماكن لخزين الغلال والخبيز، وحظيرة للحيوان، وفناء للدواجن.
كما يتحدد شكل السكن أيضا حسب المستوى الاجتماعى لكل إنسان، فإذا كان لصاحبه سلطة ومكانة عالية يضاف للبناء جزء للاستقبال، قد تكون مساحته أكبر من جزء المعيشة، أما إذا كان صاحبه رجلا حربيا، يعيش فى خطر، فيقام بيته على شكل حصن، كما نجد قصور الإقطاعيين فى أوروبا فى العصور الوسطى، التى ترتفع فوق قمم الجبال حتى يتمكنوا من السيطرة على الموقف إذا داهمهم أحد أو تعرضوا للإغارة.
ولو عكسنا هذه الملاحظات على السينما، خاصة على أعمالى، تجد أن المتفرج الذى لا يخرج مفهومه للسينما عن أفلام الميلودراما، فإنه عندما يشاهد "المومياء" مثلا سيجد أن شكله يعتمد على عناصر التشكيل الضرورية التى تعطى للفيلم شخصيته الفنية الخاصة، ومن خلال هذا الشكل الذى يقصد به ما هو أعمق منه، تروى القصة فى الفيلم، التى لا تزيد عن ثلاثة أسطر لأنى لا أهتم بالدرجة الأولى بالحكاية، وليست هى المقصودة من صنع الفيلم.
ولكن الفيلم يتحدث بهذه العناصر عن مصير حضارى أو مأساة حضارة تمتع بحصيلتها العالم وحرم أهلها منها، لأنها دفنت فى بلادها المصرية تحت التراب، ثم تعرضت هذه الثروة المطمورة للاستغلال من قبل سكان الجبل الذين لا يعرفون منبعها.
هذا المصير يمكن أن يطبق فى أى دولة ذات حضارة تجمدت "وقد يكون فى تخلفها قوة"، ومن هنا تشعر فى الفيلم بوقوف الزمن، وبأن حركة الممثلين تكاد تكون متجمدة هى الأخرى بسبب التوقف أو الانتظار الذى يسبق اليقظة، كأننا أمام اكتشاف أو مولد شىء جديد".

شادي أثناء تأدية الخدمة العسكرية

"عفريتة" واحدة وثقافات مختلفة
وفي حوار لسامي السلاموني مع شادي عبد السلام لم ينشر إلا بعد وفاته وتحديدا في 18\10\1986 بمجلة الإذاعة والتليفزيون يتحدث شادي عن تأديته للخدمة العسكرية فيقول "ذهبت إلى الجيش فى سلاح الصيانة بالعباسية، كان هذا أول لقاء جاء لى لأتعرف من خلاله وبالممارسة وليس بمجرد القراءة على الشعب بجميع طبقاته وفئاته وثقافته الحقيقية، فأنت تتجمع مع زملائك فى التجنيد بكل نوعياتهم فى مكان واحد، وترتدون جميعا "عفريتة" واحدة وسواء أردت أو لم ترد فلابد أن تتفاهم مع الجميع وتعرفهم، وبعد قليل تجد نفسك قد تعودت عليهم وأصبحت واحدا منهم، وفى هذا المعسكر قضيت سنة كاملة من العزلة عن الطريق اليومى الذى كنت سائرا فيه حتى تلك اللحظة، وهو من الدراسة إلى البيت ومن البيت إلى الدراسة باستمرار، وعن علاقة محدودة ببعض الأصدقاء، إلى رؤية شاملة للبلد كلها، وكان هذا عام 55 أو 56، وبمجرد أن أنهيت فترة التجنيد حتى حدث العدوان الثلاثى على مصر عام 56، فكانت هذه أول مواجهة حقيقية لى مع هذا التناقض الضخم بين فئات مخالفة من زملاء المعكسر الواحد، ثم بين حياتى الطبيعية كمجرد شاب يتلمس بداية مستقبله وبين الحياة العسكرية، وفى هذه التجربة المهمة جدا تعودت على النظام وقوة التحمل الجسمانى وابتعدت مؤقتا فى الوقت نفسه عن القراءة والكتابة وعن الرسم وكأنك أخذت إجازة إجبارية من هذا كله، لكى يتجه عقلك اتجاها آخر تماما، لقد أعطانى هذا العام الكامل من الخدمة العسكرية الفرصة لكى أفكر على مدى هذا العام فيما يمكن أن أصنعه بعد ذلك، ودون أن أحس بأن الزمن يدفعنى قسرا لاختيار سريع".

شادي مع رائد الواقعية صلاح أبو سيف

يوم طرقت باب "رائد الواقعية" فى السينما
جاءت الشجاعة يوما لشادي- كما نقل لنا مجدي عبد الرحمن- وطرق باب صلاح أبو سيف فى بيته، يحكي شادي فيقول: "قلت له أريد أن أعمل فى السينما وذلك بعد أن عرفته بنفسى، ولم يفتنى أن أذكر له أننى جاره، فنحن نسكن فى شارع واحد بالزمالك، رحب بى صلاح أبو سيف وكنت معه فى الاستديو كل يوم.
فى أول فيلم وكان فيلم "الفتوة" عام 57/58 تقريبا كنت شبه متفرج، العمل الذى قمت به مجرد تدوين الوقت الذى تستغرقه كل لقطة. ثم عملت معه بعد ذلك مساعد مخرج فى أفلام "الوسادة الخالية" و"الطريق المسدود" و"أنا حرة" وعملت بعدها مع الأستاذ بركات، ثم الأستاذ حلمى حليم فى "حكاية حب" وفى هذا الفيلم عملت الديكور لأن مهندس الديكور كان غائبا، نجح الديكور ويبدو أنه لفت الأنظار فجاءتنى عقود لعمل ديكور ثلاثة أفلام أخرى.

"The Vacant Pillow" movie poster 1957, written by Ihsan Abdel Qudoos and  starring Abdel Halim Hafez and Lubna Abdel … | Egyptian movies, Egypt movie,  Cinema posters
أفيش فيلم "الوسادة الخالية" الذي عمل به شادي كمساعد مخرج
بعدها بدأت العمل فى ديكور "صلاح الدين الأيوبى"، كان يخرجه عز الدين ذو الفقار وتوقف العمل بموته ثم عملت فى "واإسلاماه" بدلا من أستاذى "ولى الدين سامح" بسبب سفره إلى الخارج، كما قمت بتصميم الديكور والملابس، الفيلم أخرجه مخرج أمريكى اسمه أندور مارتن عام 1960 وهو مخرج جيد لكنك عندما تخرج فيلما تاريخيا فلابد من المعرفة الدقيقة بالتاريخ والعادات واللهجات، وفى رأيى المحاولة لم تنجح، لأن الممثلين كانوا يتكلمون العربية وهى لغة لا يفهمها المخرج ولا يستطيع أن يتذوقه، وبالتالى يصعب توجيههم".

قصة حب فى السلك الدبلوماسى
كذلك تحدث شادي فقال: "بدأت مساعدا للإخراج ومهندسا للديكور ومصمما للملابس، الحق أنى كنت شغوفا بمعرفة كل فروع اللغة السينمائية، ولكن الملل من السينما السائدة أخذ يتسرب إلى نفسى، لم أتجاوب مع 80% من مواضيع الأفلام التى أشترك فى تنفيذها، ثم ضقت بالطريقة المتعجلة التى تصنع بها الأفلام، وحاولت أن أعرف من هو سيد العمل: الموزع أو المنتج أو المخرج أو النجم، اكتشفت أن الجميع يتدخلون فى الفيلم، وكل منهم يسبح فى فلك ضيق ومحدود، فتكون النتيجة مجرد أعمال صغيرة، مكررة، خالية من القيمة، من هنا بدأت أكتب أول سيناريو، فى سرية تامة، وربما لأنه لم يكن لى أى أمل فى أن يظهر إلى النور، كان الموضوع يدور حول قصة حب فى السلك الدبلوماسى، وأدركت أن ما كتبته يسير فى الطرق الضيقة للسينما السائدة، فلم أتم المشروع".

انتظروا فى الحلقة الثالثة.. نستكمل سيرة شادى منذ أن نال ثقة المنتجين حتى استخدم الكاميرا بديلا للسلاح!