رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: الوالى والواعظ وأولياء الله

محمود خليل
محمود خليل


اليوم هو السبت.. والتاريخ هو ١٧ أكتوبر عام ١٧١١، الموافق ٥ رمضان عام ١١٢٣ هجربة، أمام جامع «المؤيد» بمنطقة السكرية بالدرب الأحمر يتزاحم جمع كبير من الناس، الكل يريد أن يدخل ويستمع إلى درس الشيخ الرومى الذى وفد إلى مصر مؤخرًا وتناقل الأهالى سيرته من شخص إلى آخر.. لم تكن حلاوة حديث الشيخ هى ما أغرى الناس بالتزاحم من أجل الظفر بموضع قدم أو قعدة تتيح لهم الاستماع إليه، بل الأقوال الصادمة التى سمعوا أنه يرددها، ربما لم يصدق بعضهم ما سمعوه فذهبوا ليسمعوا بأنفسهم، وبين جمع الأهالى انسل جمع من الأتراك أراد أن يعد تقريرًا متكاملًا حول ما يقوله الشيخ حتى يرفعه إلى أولى الأمر ليتخذوا موقفًا حازمًا منه.. الكلام الصادم الذى كان يردده الشيخ فى دروسه تعلق فى أغلبه بمجموعة من الخرافات والطقوس الطائشة التى يتعامل بها الأهالى مع ضرائح الأولياء، فكان ينهى مستمعيه عن تقبيل الأعتاب وإيقاد الشموع على القبور، وينكر عليهم ما يرددونه من أن بعض الأولياء اطلعوا على اللوح المحفوظ الحاضر فى الملأ الأعلى!.. كان الأهالى يستمعون إلى هذا الكلام ويتعجبون، والأتراك ينصتون ويسجلون، ومن وراء الشيخ قلة من الأتباع المخلصين له والمؤمنين بأفكاره.
لاحظ أتباع الشيخ اندساس المخبرين «الترك» بين الحاضرين، وشعروا بأن خطرًا يحلق فى الأفق، بعدها هرولوا إلى بيوتهم وجمعوا كل ما استطاعت أيديهم أن تصل إليه من سلاح وعصى وعادوا إلى المسجد وتحلقوا حول الشيخ.. خاف الأتراك ومن ورائهم بعض الأهالى المتحمسين من الاشتباك مع أنصار الشيخ، فتسحبوا من مسجد المؤيد وساروا إلى الأزهر مستنجدين بعلمائه عارضين عليهم ما يقوله الشيخ وطالبين منهم الفتوى، فما كان من المشايخ والعلماء إلا أن أيدوا رأى الأهالى وسفهوا هجوم الشيخ على خرافاتهم، وكتبوا لهم فتوى رسمية تقول: «كرامات الأولياء لا تنتهى بالموت، وإنكار الشيخ الرومى اطلاع الأولياء على اللوح المحفوظ لا يجوز».. وصلت الفتوى إلى الشيخ الجالس للوعظ بمسجد المؤيد، فطلب مناظرة مشايخ الأزهر أمام قاضى العسكر.. أيد أنصار الشيخ طلب المناظرة وحشدوا ألفًا من الأهالى وسار الركب يتصدره الشيخ الرومى إلى القاضى، فلما وصلوا بيته اضطرب أمره وسألهم عما يريدون، فعرضوا عليه الأمر، فأنكر فتوى الأزهر، فطلبوا منه أن يكتب لهم ورقة ببطلانها، فرفض، فاعتدوا عليه بالضرب، ففر منهم، فأمسكوا بنائبه وأجبروه على كتابة ورقة ببطلان فتوى الأزهر.
فى اليوم التالى ذهب أنصار الشيخ إلى المسجد فلم يجدوه جالسًا للوعظ كما تعود، اقتفوا أثره فى كل مكان يذهب إليه، لم يجدوه، فسارعوا إلى دار المحكمة، وما إن اقترب الركب حتى فرّ كل من فيها ولم يبق سوى القاضى، سألوه عن مكان الشيخ أو ما حل به، فقال لا أعلم، فأمروه بأن يقوم معهم إلى دار الوالى ليعثر لهم على الشيخ، استفسر الوالى من القاضى عن الأمر فشرحه له، فاتخذ قرارًا بالبحث عن الشيخ حتى وجده وهدأ الأهالى وانسحبوا من أمام داره.. راع الوالى ما فعله العامة من سوء الأدب وتحريك الفتن وتحقيره هو والقاضى، فأعطى أوامره للصناجق والعساكر فتدفقوا إلى مسجد المؤيد ولقنوا الأهالى درسًا قاسيًا، تسامحوا بعده عن مسألة الانحياز للرؤية التنويرية التى يتبناها الشيخ الرومى، والتزموا بفتوى المؤسسة الرسمية، أما الشيخ فقد تم نفيه خارج بر المحروسة.