رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جمال طه يكتب: من انهيار الميليشيات وتفكك التحالفات إلى الصدام المباشر

جمال طه
جمال طه



روسيا عندما تدخلت عسكريًا فى سوريا أكتوبر ٢٠١٥، وضعت فى اعتبارها حالة الإجهاد التى لحقت بالجيش السورى نتيجة لطول سنوات الحرب، وتعدد التنظيمات المسلحة، وقدرة كل منها على إدارة مواجهاته باستقلالية وكفاءة فى نطاق سيطرته، لذلك اتبعت عددًا من السياسات التى تعكس حنكة دبلوماسيتها فى إدارة الأزمة، الأولى: رفع مستوى كفاءة أداء الجيش بالتدخل فى عملية التدريب، ودعمه بالمزيد من الميليشيات الإيرانية واللبنانية، بل وعناصر مدربة تابعة للشركات الأمنية الروسية.. الثانية: الحد من الصدام مع التنظيمات المسلحة، تجنبًا للمزيد من الخسائر، والاعتماد على استراتيجية «التطويق والحصار».. الثالثة: تحديد مناطق لخفض التوتر بداخلها مناطق عازلة، ما يكفل حصار التنظيمات فى مناطق محدودة.. الرابعة: إجراء عمليات تبادل بين المناطق المحاصرة، ما سمح بإجراء بعض التعديلات الديموجرافية المحسوبة، لتعزيز سيطرة النظام على مساحات أكبر من الدولة، وتضييق النطاق الجغرافى لتواجد المسلحين.. الخامسة: القيام بعمليات عسكرية للزحف على ما تبقى من مناطق سيطرة الميليشيات، على النحو الذى انتهى بتجميع كل التنظيمات المسلحة فى إدلب.
وجود التنظيمات الإرهابية داخل إدلب فجر الصراعات بينها، وأفقدها وحدة القيادة، وحصارها داخل مناطق محاطة بالشريط العازل منزوع السلاح قيد قدرتها على العمل والمناورة، قطاع منها انشق على التنظيمات التى ينتمى إليها، وذاب وسط المدنيين، وقطاع آخر تطوع للعمل فى ميادين أخرى خاصة ليبيا، وقطاع ثالث انخرط ضمن التشكيلات التابعة مباشرة لتركيا. نجاح قوات الجيش السورى فى استعادة معرة النعمان وسراقب والتقاطع الذى يربط الطريقين السريعين إم ٤ «حلب- اللاذقية» وإم ٥ «حلب - دمشق»، أدى إلى حصار كامل لعدد من المواقع العسكرية التركية. التقدم السريع للجيش السورى ناتج عن نزوح السكان عن المدن، وانهيار دفاعات التنظيمات، وهذا أدى إلى انتهاء مرحلة الحرب بالوكالة، ووقوف كل أطراف الأزمة فى مواجهة مباشرة مع بعضهم البعض. توازنات القوى شهدت انقلابًا مفاجئًا، والتحالفات صارت مهددة، والإقليم على شفا حرب ضارية.

روسيا أعطت إشارة البدء للهجوم السورى على إدلب، وهى تقدر انعكاسات ذلك على علاقتها بتركيا، لكن العلاقات بينهما على مدى الأسابيع الأخيرة لم تكن على ما يرام، عندما اشتكت أنقرة من تعرض جنودها للقتل نتيجة لقصف الجيش السورى، حملتها موسكو المسئولية لأنها قامت بتحركات داخل إدلب دون إبلاغها. الشرطة العسكرية الروسية أغلقت منفذًا فى الجدار الحدودى الخرسانى الفاصل بين سوريا وتركيا بين مدينتى عامودا والدرباسية شمال الحسكة، كانت تركيا قد فتحته لتمرير دورياتها إلى الأراضى السورية، ما دفع أنقرة إلى إلغاء الدوريات المشتركة مع الشرطة العسكرية الروسية. القوات التركية منعت دورية عسكرية روسية من التوجه لمنطقة علوك بريف رأس العين، وأطلقت الرصاص فى الهواء لإجبارها على التراجع، الروس عادوا إلى منطقتهم على جبهة أبوراسين، وأزالوا الأعلام الروسية وأعلام قوات النظام من نقاط انتشار الأخيرة فى المنطقة الممتدة من كسرى إلى حدود تل تمر بريف الحسكة الشمالى الغربى. إجراء تم بهدف سياسى لفتح الباب لتسوية مستقبلية للأزمة، تقوم على مبدأ التبادل واحتواء الجانب التركى.
اختلال علاقات التحالف بين تركيا وروسيا دفع عمر جوليك، المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم فى تركيا، إلى مناشدة حلف «الناتو» دعمها فى إدلب، لأن هزيمتها ستقضى على شعبية الحزب وتُسقِط أردوغان، وانتصارها استنادًا لهجوم واسع النطاق يهدد بحرب طويلة، لن يؤيدها الرأى العام التركى، لأنها تستنزف الاقتصاد المنهك. المندوبة الأمريكية لدى الناتو «كاى بيلى» حاولت تعميق خلافات روسيا وتركيا، واستعادة الأخيرة كعضو مهم، مؤكدة: «لا نوافق على كل الإجراءات التركية فى سوريا، لكننا مصممون بحزم على دعمها فى هذا الوضع»، والمبعوث الأمريكى الخاص إلى سوريا، جيمس جيفرى، وصل إلى تركيا لبحث سبل مساعدتها.
المواجهة المباشرة بين تركيا وسوريا فرضت على روسيا الاختيار، إما الانحياز لمصالحها الاقتصادية مع تركيا، أو لمصالحها الاستراتيجية مع سوريا، وأحلى البديلين مُر، لكنها قررت دعم الخطة السورية للقضاء على التنظيمات المسلحة فى إدلب، حماية لقواعدها. المواجهة أيضًا فرضت على إيران نفس الاختيار، وهو الهروب إلى الأمام بعرض وساطتها، لكن استمرار الرعونة التركية فرض عليها دفع ميليشياتها للتمركز فى نفس الخندق مع الجيش السورى ضد القوات التركية.
مأزق تركيا مع روسيا يرجع إلى افتقادها مبررات التمسك بالتواجد فى إدلب. أردوغان تعهد بالتزامات محددة بتوقيتات مكتوبة فى اتفاق سوتشى ١٧ سبتمبر ٢٠١٨، أهمها إقامة منطقة منزوعة السلاح بعرض ١٥ إلى ٢٠ كيلومترًا على طول خط التماس، ما يعنى قيام تركيا بإخراج جميع الفصائل المسلحة منها بعد نزع أسلحتها الثقيلة. أردوغان نفسه هو الذى اقترح استئناف حركة المرور عبر الطريقين «إم ٤» و«إم ٥» قبل نهاية ٢٠١٨، والتزام صريح باتخاذ إجراءات فاعلة لضمان نظام مستدام لوقف إطلاق النار، لكن الواقع أن المنطقة ظلت قاعدة للقصف الصاروخى وانطلاق الطيران المسير لضرب مواقع القوات السورية والقواعد العسكرية الروسية. وهيئة النصرة «القاعدة» تمددت حتى كادت تسيطر على كامل المحافظة. تركيا فشلت فى الوفاء بالتزاماتها بموجب الاتفاق، ما فرض تدخل الجيش السورى والطيران الروسى لوضع الأمور فى نصابها.

التطورات فى إدلب شمال غرب سوريا، وهى موضوع اتفاق سوتشى ١٧ سبتمبر ٢٠١٨، ترتبط بشكل مباشر بنظيرتها شمال شرق سوريا، المعنية باتفاق سوتشى الخاص بالمنطقة الآمنة ٢٢ أكتوبر ٢٠١٩، والذى يقضى بحرية العمل العسكرى للقوات التركية فى المنطقة من تل أبيض فى ريف الرقة الشمالى، إلى رأس العين فى ريف الحسكة الشمالى الغربى بطول قرابة ١٠٠ كم، وعمق ٣٢ كم داخل الأراضى السورية، وإنشاء آلية مشتركة لإدارة باقى المنطقة الآمنة، عدا مدينة القامشلى، وانسحاب الميليشيات الكردية «قسد» من جميع المناطق الحدودية شرق الفرات، والتزم الطرفان بموجبها بالحفاظ على وحدة وسلامة الأراضى السورية.
التصور الروسى للتسوية فى المستقبل القريب يعتمد على أن النتيجة الطبيعية للعمليات السورية هى النزوح الجماعى لسكان تلك المناطق من العرب، وهو ما حدث بالفعل بنزوح ٣٥٠ ألفًا حتى الآن. مواصفاتهم تفرض إجراء عملية إعادة تموضع ديموجرافى شمال سوريا. سكان إدلب وحماة معظمهم من العرب وبعضهم تركمان، يدينون بالإسلام السنى، معارضون للنظام الحاكم فى دمشق، قاموا بانتفاضات عديدة تم قمعها بالقوة المسلحة، أشهرها فى حماة فبراير ١٩٨٢، لكن ذلك لم يهدئ من غلواء تطرفهم. عندما بدأت فوضى ٢٠١١ انضموا جميعًا للمعارضة المسلحة. خلو المدن التى يدخلها الجيش على عروشها ليس مصادفة، لكنه يعكس رفضًا جماعيًا من السكان للخضوع لسلطة دمشق، وانحيازًا كاملًا للتطرف ولتركيا، ويتم ذلك فى الوقت الذى يتم فيه إخلاء المنطقة الحدودية الشمالية الشرقية من تل أبيض لعين العرب بعمق ٣٠ كم من الأكراد.
عملية التبادل السكانى هنا تفرض نفسها بنقل العرب المسلمين السنة، المعارضين لنظام حكم الدولة السورية، المتعاطفين مع تركيا، إلى المنطقة الآمنة على الحدود التركية، فى الوقت الذى يعاد فيه توطين الأكراد فى المناطق التى تم إخلاؤها فى حلب وإدلب. هذه العملية مُرضية لجميع الأطراف، النظام السورى يتخلص من بؤرة توتر معارضة تسبب له صداعًا مزمنًا منذ عشرات السنين، وفى نفس الوقت يقضى على التطلعات الكردية بإنشاء وطن قومى بالمنطقة الحدودية الشمالية الشرقية، وتتخلص أنقرة من شبح الدولة الكردية، ومن التهديدات القادمة عبر الحدود المشتركة مع سوريا، وتقطع التواصل بين أكراد سوريا والعراق وأكراد الداخل التركى، ليحل بدلًا منهم كيان سنى موالٍ، نجحت فى ربطه بها على مدى السنوات الماضية. عملية التبادل السكانى تلك تتم وسط صخب التصعيد العسكرى المتبادل، ليدفع كل طرف عن نفسه شبهة المشاركة فى تلك الجريمة.
تركيا بالطبع تفضل أن تظل مسيطرة بنفسها على إدلب، وهى تحاول ذلك من خلال رفع درجة التصعيد العسكرى، أملًا فى تراجع الجانب الروسى والنزوع للتهدئة، وهى تستهدف فى نفس الوقت إشغال الجيش فى ضباب حرب محدودة، تُحيِّد دوره السياسى التقليدى، خاصة أن إجراءات النظام ضده التى أعقبت محاولة الانقلاب فى يوليو ٢٠١٦، قد سببت مرارة لدى أفراده، ناهيك عن عدم ارتياح قطاع واسع منه للتدخلات الخارجية التى يدركون سوء انعكاساتها الاقتصادية، لكن أنقرة تدرك أن الستة آلاف جندى والألف وأربعمائة مركبة مدرعة التى دفعتها إلى إدلب، لن تغير من التطور الراهن للأوضاع الذى تدعمه روسيا، وأن البديل الآخر المتاح أمامها هو أن تشارك فى عملية التبادل الديموجرافى، على نحو يحقق أمن حدودها الممتدة.
كل الشواهد تؤكد أن سقوط الميليشيات أدى إلى انفراط عقد التحالف الثلاثى «روسيا، إيران، وتركيا»، الذى وجه الأحداث فى المنطقة عبر السنوات الماضية، لكن ذلك لن ينهى علاقات التعاون الاستراتيجى بينها على مستوى العلاقات الثنائية. طهران مستمرة فى تحالفها مع موسكو، وتركيا تتجه نحو رأب الصدع فى علاقاتها بالناتو. وإقليمنا سيظل مضطربًا، يترنح على سطح صفيح ساخن، لسنوات ليست بالقصيرة.