رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: المغامر الأشهر فى تاريخ التنظيمات العنقودية

محمود خليل
محمود خليل



رغم الطابع السلفى الذى غلب على تيار الصحوة الإسلامية الذى سيطر على الجامعات المصرية أوائل السبعينيات، إلا أن «الإخوان» كانت حاضرة بقوة فى كل المشاهد. فبمجرد البدء فى الإفراج عن قيادات الجماعة وكوادرها، بدأت تدب فوق أرض المحروسة وتسعى إلى استعادة زمام المبادرة لقيادة حركات الإسلام السياسى. تمكنت الجماعة من إقناع القطاع الأكبر من شباب الجماعات بالانضمام إلى التنظيم، وأصبح من المفهوم أن تلك المنشورات التى تشيع فى الجامعات باسم الجماعات، وتكون ممهورة بتوقيع «أمير أمراء الجماعات الإسلامية» معبرة فى التحليل الأخير عن الإخوان.
ومن عاصر هذه الفترة يتذكر أن الدكتور حلمى الجزار- القطب الإخوانى المعروف- كان أكثر من يستخدم توقيع «أمير الأمراء»!. يقول «علاء بكر» فى كتابه «الصحوة الإسلامية فى السبعينيات»: «كان من المتوقع أن تسعى قيادات الإخوان بعد الإفراج عنها إلى الاتصال بقيادات الجماعات الإسلامية فى الجامعات للتعرف عليهم ودعوتهم للعمل من خلال منهج الإخوان، ونجحوا بالفعل فى إقناع القيادات الإدارية للجماعة الإسلامية بالانضمام لهم، الذى بدأ سرًا خشية رد فعل النظام الحاكم، ثم جهرًا بعد انكشاف الأمر ورفض من تمسكوا باستمرار النهج السلفى للجماعة الإسلامية ومعارضتهم الانضمام إلى الإخوان. وبهذا الانضمام صار للإخوان هيكل تنظيمى من شباب الجامعات يمثل جيلًا جديدًا لدعوتهم». لم يتوقف حضور الإخوان عند هذا الحد، بل امتد إلى الجماعات التى تمسكت بفكرها السلفى وأضافت إليه البعد الجهادى متأثرة فى ذلك بأفكار سيد قطب. يشهد على ذلك تنظيم الفنية العسكرية الذى قاده «صالح سرية»، وحاول الانقلاب على حكم السادات عام ١٩٧٤، وما تلا هذا التنظيم من تشكيلات عنقودية أخرى أسهمت فى إرباك المشهد السياسى فى مصر طيلة فترة السبعينيات حتى انتهى المطاف إلى أشد مشاهد المواجهة بين الجماعات والسلطة درامية عام ١٩٨١.
«صالح سرية» فلسطينى الأصل، اعتاد على التحرك داخل العديد من الدول العربية، وقام بنشاط إسلامى فيها، واستقر به المقام فى مصر أوائل السبعينيات لإنجاز رسالته لنيل درجة الدكتوراه فى علوم التربية من كلية التربية جامعة عين شمس، وتمكن من الحصول عليها. تأثر «سرية» بأفكار وتجربة سيد قطب تأثرًا بالغًا، سواء على مستوى التفكير النظرى أو السلوك الحركى. فالقارئ للكتيب الذى سطره صالح سرية تحت عنوان «رسالة الإيمان» يلاحظ الحضور المكثف للعديد من الأفكار التأسيسية التى ظهرت فى كتاب سيد قطب «معالم فى الطريق». فقد تبنى مصطلح الجاهلية، واتهم المجتمعات التى لا تحكم بما أنزل الله بالكفر والمروق من الدين حتى ولو كان أبناؤها من المسلمين، وقسم العالم إلى دارين: دار الإسلام التى تحكم بما أنزل الله، ودار الكفر التى تحكم بالهوى والتشريع البشرى. واعتبر «سرية» أن المسلمين المعاصرين ارتدوا ردة جماعية تشبه الردة التى حدثت فى عصر أبى بكر الصديق!. وإذا كان أبوبكر الصديق قد حارب المرتدين حتى يعيدهم إلى حظيرة الإسلام، فالواجب على أى تنظيم جماعاتى إسلامى أن يجاهد هو الآخر فى حرب المرتدين المعاصرين، حتى يعودوا إلى الطريق.
ورغم كونه باحثًا يفترض فيه امتلاك الأدوات المنهجية التى تساعده على فرز الحقائق، فإن «صالح سرية» وقع فى خطأ واضح عندما نظر إلى حروب الردة، فاعتبرها حربًا دينية تمارسها الجماعة المؤمنة ضد من امتنعوا عن دفع الزكاة، رغم كونهم مسلمين يصلون ويصومون ويحجون. لم يفهم «صالح سرية» ومن حذا حذوه أن هذه الحرب كانت سياسية بامتياز، وأن الردة فى ذلك الوقت كانت تحمل مدلولًا سياسيًا عندما قررت القبائل العربية التمرد السياسى على سلطان قريش فكان ما كان. وليس أدل على ذلك من أن أبا بكر دفع دية المسلم فى رقبة مالك بن نويرة بعد أن قتله خالد بن الوليد. كما أن «صالح سرية» لم يفرق بين الزكاة التى تؤدى بإرادة فردية، والصدقات التى كان العرب يدفعونها للنبى. وقد برر أهل الردة امتناعهم عن الدفع لأبى بكر بقولهم: «كنا ندفع لمن كانت صلاته علينا سكنًا لنا»، ويشير بذلك إلى النبى الذى قال الله فى حقه: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم». لم يستوعب صالح سرية الفارق بين الردة عن الدولة والردة عن الدين.
وتحتشد رسالة الإيمان لصاحبها صالح سرية بالعديد من المصطلحات القطبية، مثل «الموالاة» و«الطاغوت» و«الجهاد» و«الفئة المؤمنة» وغير ذلك، وإن طورها وأسهب فى شرحها، ونص على أنه لا يجوز موالاة الكفار، وأن الجهاد ضد الجاهلية واجب وأنه الطريق الوحيد لإقامة الدولة، وأن «الفئة المؤمنة» هى المسئولة عن النهوض بهذا العبء. ولم يفترق حديثه فى هذا السياق عما أشار إليه سيد قطب وهو يتحدث عن الجيل القرآنى الفريد والطليعة المؤمنة وغير ذلك من أفكار. وقد التقى صالح سرية مع أصحاب النهج السلفى فى ضرورة استعادة دولة الصحابة الأوائل، لكنه اختلف معهم فى مسألة وجود نظرية للحكم الإسلامى، فذهب إلى أن القرآن لم ينص على طريقة خاصة فى اختيار الحاكم أو تنظيم شكل الدولة وتحديد العلاقة بين سلطاتها. وقد تماهى فى هذا المقام مع أفكار سيد قطب الذى جمد التاريخ الإسلامى عند مشهد الجيل الأول من الصحابة.
التقى «سرية» مع «قطب» فى فكرة تشكيل تنظيم يمثل أداة لمواجهة «دار الكفر» على حد تعبيره. فكما شكل سيد قطب جماعة مسلحة جعل من مهامها مواجهة الدولة فى حالة التحرش بالتنظيم، ووضع خطة لتدمير عدد من المرافق الأساسية للدولة لشل حركتها، لكن تم اكتشاف التنظيم والقبض على عناصره. مدد «سرية» الفكرة على استقامتها وطورها من خلال التفكير فى ضم عناصر عسكرية إلى التنظيم، وحددها فى طلاب الكلية الفنية العسكرية وغيرها من الكليات، وخطط للاستيلاء على مجموعة من الأسلحة والآليات التى تستعين بها هذه الكليات، مع الاعتماد على العناصر الطلابية التى تم تجنيدها فى تنفيذ الخطة، واختار يوم اجتماع السادات مع قيادات الدولة بالاتحاد الاشتراكى موعدًا للتنفيذ، لكن تم فضح التمرد عبر اثنين من أعضاء التنظيم وأحبطت المحاولة فى بداياتها. وقد كشفت التحقيقات عن أن صالح سرية كان على اتصال بجماعة الإخوان عبر السيدة زينب الغزالى، ورغم ما تؤكده كتابات الجماعة من أن المرشد والقيادات لم يبدوا استعدادًا واضحًا للتعاون مع «سرية»، إلا أن مجريات الأحداث تؤكد أن الجماعة كانت تدعم تنظيم صالح سرية بصورة غير مباشرة، وتنتظر نتائج تحركه، فإذا نجح فى تنفيذ خطته وتم التخلص من السادات، كانت ستظهر فى الصورة وكان التنظيم يعلم أنه الأكثر قدرة على السيطرة على الشارع والبروز فى الواجهة، وإن كانت الأخرى فقد صانت الجماعة نفسها وحمت قياداتها من العودة إلى السجون مرة أخرى على يد المغامر الفلسطينى «صالح سرية»!.