رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"كتيبة سوداء" بطولة الأورطة المصرية في تحرير المكسيك

جريدة الدستور

قبل 198 سنة وفي مثل هذا اليوم من عام 1821 صدر الإعلان عن استقلال المكسيك، وقبل أن تسألني ما لنا باستقلال المكسيك أو احتلالها٬ أقول لك أن والى مصر محمد سعيد باشا٬ كان قد أرسل فرقة من الجيش المصري لنجدة الجيوش الفرنسية من هزيمة قد تلحق العار بالإمبراطورية الفرنسية خلال حربها مع المكسيك.

وعلى الرغم من قلة المصادر التاريخية عن هذه الفرقة٬ إلا أن الروائي محمد المنسي قنديل٬ خلد أفرادها في روايته "كتيبة سوداء"، وتدور أحداث الرواية عبر أربع سنوات من عام 1863 إلى عام 1867 يرصد فيها المؤلف فترة منسية لم يتناولها التاريخ إلا شذرات قليلة هنا أو هناك٬ وربما كان الأمير عمر طوسون باشا أول من تناولها في كتابه "بطولة الأورطة السودانية المصرية في حرب المكسيك".

وتنطلق الرواية من حادثة الكتيبة المصرية التي حاربت تحت لواء الجيش الفرنسي في المكسيك عام 1863؛ حيث طلب الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث من الخديوي سعيد باشا، مساعدته في حربه ضد الشعب المكسيكي، التي بدأت منذ عام 1861، فأرسل له "أورطة" كتيبة من الجنود المصريين والسودانيين.

يمكننا القول بأن " أنسنة" التاريخ ٌهي الوصف الأدق للرواية التي تناولت تاريخ ناسها البسطاء شديدي العادية من ‬الفلاحين والصناع والصيادين وحياتهم البسيطة دون أطماع وأحقاد لا يصنعها إلا الأباطرة والملوك في قصورهم الباردة المسيجة.

وانحازت " كتيبة سوداء" بشرف للقيم ضد القهر والعبودية وتعبير عن الشجاعة والصلابة، والحرب والحب والمصير الإنساني، لكنها لم تغفل كذلك الجانب المظلم الآخر في النفس البشرية وغرائزه الدموية:" يقودهما الحديث لبداية صفقة بأسرع مما توقع٬ يقول ود الزبير في قوة: إنها قادرة علي قتل كل أعدائك أيها السلطان وأن تجعلك السلطان الأوحد في هذه الغابة " ويبيع كبير القبيلة 40 من رجال قبيلته إلي النخاس "ود الزبير" في مقابل ستة بنادق٬ والذي بدوره تدور الدائرة عليه ليلقي مصيرا أسود على يد المرأة البيضاء في صفقة قتل أخرى.

السلاح والحروب٬ جنون السيطرة وغزو العالم والهيمنة علي مقدرات الشعوب٬ المركزية الأوروبية وأوهام الرجل الأبيض كلها أجواء صبغت الرواية فنجد الملكة " شارلوت" زوجة الملك "ماكسمليان" تشجعه علي قبول عرش في قارة أخري بقولها:"نحكمهم يا حبيبي٬ في عروقنا ما يكفي من الدماء الملكية٬ سننقل إليهم كل ما لدينا من نبل" وفي موضع أخر تقول:" أنت رسول الحضارة الأوروبية لتنقذ هذا البلد وتعيد بناءه".

بل وفي مفارقة شديدة الفجاجة والعبثية تتجلى في كتيبة عسكرية مصرية تحت القيادة الفرنسية تتكون من خليط من الأجناس٬ جبرة الله الشامي٬ بوعلام الجزائري٬ العاصي السوداني٬ جوفان النوبي٬ محمد أفندي ألماس الأسواني٬ مظلوم أفندي المثقف ومأزقه من الحروب من ظن أنه سيسافر إلى "باريز" ليجد نفسه متورطا في حرب لا يعرف سببها تدور رحاها في أرض غريبة ويدفن في قبر لا يعرف إليه أحد طريقا.

"كتيبة سوداء " رواية استثنائية يمكن قراءتها من المدخل الإنساني٬ تاريخ الإنسان المجهول الذي أغفله المؤرخون على حساب تاريخ الملوك والدول والأمبراطوريات.

رواية تعري صراع القوى القديمة التي تملك قرارها وتمارس سحق الشعوب الفقيرة والتي لا تملك قرارها لكنها تملك المقاومة ولا ترتضي بالخنوع.

رواية عن الكائن المدهش المسمى "إنسان" عن تعقيداته وتناقضاته نقلها قنديل في أكثر من موضع ومن خلال مشاهد عديدة وعلاقات إنسانية بعيدة عن الحروب والأطماع شديدة القرب للفطرة والمحبة ما بين رقصة"جوفان" لأسراه من الجنود المكسيكيين ومشاركتهم خبزهم ورفضه قتلهم٬ وقصة الحب التي تجمعه بالمكسيكية "ماريانا" التي تستعيده من براثن الموت لملك الغابة من جديد ويفارق العالم الشرير.