رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"مولود ميت".. إلى أين تمضى "صفقة القرن"؟

جريدة الدستور

مع اقتراب موعد طرح خطة التسوية الأمريكية للصراع فى الشرق الأوسط، المعروفة باسم «صفقة القرن»، والمحدد عقب انتهاء عيد الفطر المقبل، وعيد نزول التوراة «شفوعوت»، فإن الأجواء السياسية لا تبدو مهيأة لاستقبال الخطة التى يعوّل عليها الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، فى تحقيق إنجاز تاريخى فشلت فيه جميع الإدارات الأمريكية السابقة.

وفيما تعوّل الإدارة الأمريكية على الوصول لتفاهمات مسبقة تضمن نجاح الخطة، فإن الأطراف المعنية بالصراع الفلسطينى- الإسرائيلى لا تبدو متفائلة بـ«صفقة القرن»، التى وصفها رئيس الوزراء الفلسطينى، محمد أشتية، مؤخرًا بأنها «ولدت ميتة».

«الدستور» تفتح ملف «صفقة القرن» من واقع التسريبات حولها، وتتناول فى السطور التالية أهم البنود التى كشفتها تصريحات القائمين على إعدادها فى الإدارة الأمريكية، بالإضافة إلى أهم العقبات التى تواجه تنفيذها على أرض الواقع، ومواقف الدول المعنية منها.

بنودها تتضمن منح الفلسطينيين أموالًا وكيانًا محدود السيادة مقابل تنازلهم عن حل الدولتين
حتى هذه اللحظة لم يُعرف عن بنود «صفقة القرن» سوى بعض التصريحات التى وردت، مؤخرًا، على لسان جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكى وكبير مستشاريه، التى قال فيها إن المفاوضات على حل الدولتين، سابقًا، فشلت.
وحملت العبارة دلالة على أن الولايات المتحدة قد شطبت حل الدولتين من جدول أعمالها، ما يعنى أن خطتها لن تتضمنها، حيث تبحث واشنطن عن «حلول جديدة ومبتكرة» للتسوية لم تقدم عليها أى إدارة أمريكية من قبل.
وتكشف التسريبات عن أن الإدارة الأمريكية تحاول حاليًا تجاوز الأزمات التى يمكنها عرقلة الصفقة، ففى الوقت الذى ترغب فيه إسرائيل فى أن تكون دولة ذات أكثرية يهودية، مع ضمان تحقيق 3 مصالح رئيسية، هى الأمن، والسيطرة على الأماكن المقدسة فى القدس، بالإضافة إلى الوصول إلى وضع مرضٍ لمشكلة المستوطنات، تتلخص الأهداف الفلسطينية فى دولة مستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، عاصمتها فى شرقى القدس، مع حل مشكلة اللاجئين، فى ظل تحديات الواقع الديموجرافى والجغرافى الذى أوجدته إسرائيل فى الضفة.

ووفقًا لتصريحات «كوشنر» وعدد من المسئولين الأمريكيين، فإن الحديث لا يدور أيضًا عن حل الدولة الواحدة التى تجمع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ما يشير إلى الاحتمال الثالث الذى يمنح فلسطين كيانًا مستقلًا ذا طابع مقيد من ناحية السيادة.
وبخصوص طرح إنشاء حكم ذاتى للفلسطينيين تحت الإدارة الإسرائيلية، فإن إسرائيل نفسها سترفض مثل هذا الطرح، الذى سيجعلها ملزمة حينها بمنح الفلسطينيين الجنسية الإسرائيلية مقابل خضوعهم لسلطة محلية وأخرى مركزية، ما يسمح بتغير التوازن السكانى ويؤثر على التصويت فى انتخابات الكنيست.

وحسب التسريبات، فإن «صفقة القرن» ترتكز بالأساس على ملفى «الأمن والاقتصاد»، ما يعنى إعادة بناء الاقتصاد الفلسطينى، سواء فى الضفة أو قطاع غزة بتمويلات ضخمة يمكن تدبيرها من دول الخليج، مقابل التوصل إلى حل نهائى يشمل تنازلات من الطرفين لإنهاء الصراع على الأراضى.

ووفقًا للمؤشرات الواردة فى تصريحات «كوشنر»، فإن القسم الاقتصادى من الصفقة سيكون متطورًا بشكل خاص بما يضمن للفلسطينيين الكثير من الأموال والاستثمارات، فى مقابل التنازلات المقدمة فى ملفى القدس والحدود.

الحدود واللاجئون والمستوطنات ووضع القدس.. 4 ملفات تعوق تنفيذ الخطة على أرض الواقع
بحسب مراقبين، فإن الخطة الأمريكية القائمة على منح الأموال والاستثمارات، مقابل تجاوز الخلافات، تصطدم على أرض الواقع بعدة أزمات تحتاج إلى تجاوزها قبل أن تتحول إلى بداية حقيقية للتفاوض الجاد؛ من أجل حل الصراع القائم منذ 71 عامًا.
ورغم تواتر التسريبات المختلفة، يرى عدد من الساسة والمحللين أن الضمان الحقيقى لاستمرار الخطة الأمريكية هو التوصل لصيغة، تشمل جميع المعايير والالتزامات التى اتفق عليها الطرفان سابقًا فى قضايا الحدود والقدس واللاجئين وحل الدولتين.
وتتضمن هذه الالتزامات ما اتفق عليه الطرفان حول كون حدود 1967 أساس الاتفاق على الحدود، مع تبادل الأراضى بين الجانبين، وإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح، تخضع لبعض الترتيبات الأمنية والتنسيق فى ملف الأماكن المقدسة.
وتبحث الإدارة الأمريكية حاليًا عن «حلول مبتكرة» لتسوية الموضوعات العالقة بين الطرفين، وعلى رأسها رغبة تل أبيب فى ضم الكتل الاستيطانية الكبرى فى الضفة الغربية القريبة من الخط الأخضر لتكون جزءًا من إسرائيل، مع منح صبغة قانونية مقبولة للمستوطنات فى المناطق المنعزلة.
كما تبحث الإدارة أيضًا عن حل لمشكلة قطاع غزة، بما يضمن تجريده من السلاح مقابل إعادة الإعمار وضخ مزيد من التمويلات والاستثمارات، مع البحث فى توحيد الضفة والقطاع تحت قيادة السلطة الفلسطينية.
أما القضية الثالثة التى تبحث الإدارة عن حلول لها حاليًا، فهى قضية اللاجئين على أن تتضمن الحلول إسقاط «حق العودة» وتوطين اللاجئين الفلسطينيين فى بعض الدول التى تستضيفهم حاليًا.
وتدرس واشنطن حاليًا سيناريوهين جديدين بشأن القدس، يتضمن أحدهما نقل العاصمة الفلسطينية إلى مدينة «أبو ديس»، فيما يقترح الآخر توسعة مدينة القدس نفسها بما يسمح بتدشين عاصمة فلسطينية جديدة، مقابل الاعتراف بإسرائيل دولة قومية للشعب اليهودى.
وفى التفاصيل، فإن مسألة الحدود تعد أحد أكبر الخلافات بين الجانبين، خاصة أن الفلسطينيين يعتبرون أنهم قدموا بالفعل التنازل الأكبر حين قبلوا بحدود 1967، الذى تضمن تخليهم عن حدودهم القديمة وقت الانتداب البريطانى، مقابل إقامة دولتهم على نسبة 22% فقط من أراضيهم التى تشمل أيضًا شرقى القدس، ما يعنى أن مطالبتهم بتقديم أى تنازل آخر فى هذا الملف غير مقبول.
وتواجه قضية إخلاء المستوطنات فى الضفة الغربية معضلة كبرى فى ظل كونها تضم نحو 425 ألف إسرائيلى إلى جانب 222 ألفًا آخرين فى القدس، ويعنى ذلك أن تل أبيب حتى لو أرادت فإنها لن يمكنها تنفيذ إخلاء بهذا الحجم، لذا سيكون الحل العملى متمثلًا فى تبادل الأراضى، خاصة أن نحو 80% من هؤلاء المستوطنين يقيمون فى مناطق قريبة من الخط الأخضر.
أما مسألة القدس، فرغم ما تبدو عليه من تعقيد فى ظل إصرار الفلسطينيين على اعتبار أن جميع خطوات إسرائيل بشأنها تعد لاغية، إلا أنها تحظى بإمكانية الحل فى ظل موافقة الطرفين مسبقًا على تقسيمها بينهما، والقبول بحدود تفصل بين الأحياء اليهودية والعربية، بما يضمن إقامة العاصمة الفلسطينية فى شرقى المدينة.
ويتضمن الاتفاق بين الطرفين أيضًا أن تبقى المدينة مفتوحة أمام المؤمنين بالديانات الثلاث، بما يسمح بحرية العبادة فى الأماكن المقدسة.
أما المنطقة التاريخية فيمكن تجاوزها عبر تقسيمها بين الطرفين أو وضعها تحت إدارة مشتركة أو تحت إدارة طرف ثالث مع الحفاظ على الوضع الإدارى للمدينة المقدسة.
أما مشكلة اللاجئين فهى تشكل التهديد الحقيقى لإسرائيل المتخوفة من عودة ملايين اللاجئين الفلسطينيين، وإن كان حلها لا يزال ممكنًا فى ظل القبول بالمبادئ الواردة فى اتفاقية «أنابوليس» عام 2008، والتى ضمنت تعويض من يختارون عدم العودة إلى فلسطين والبقاء فى دولة ثالثة مقابل الحصول على تعويضات مالية.

مخاوف أمريكية من الرفض المصرى والأردنى.. و«البيت الأبيض» يعوّل على الدور الخليجى فى تحريك المفاوضات
فى الوقت الذى تبدو فيه الإدارة الأمريكية ماضية فى خطتها للتسوية، فإن الأوضاع الدبلوماسية فى المنطقة لا تبدو مهيأة لاستقبال مثل هذه الخطة.
وفى هذا الإطار يبدو أن الفلسطينيين قرروا بالفعل رفض الخطة، ورفض الرعاية الأمريكية لمسار التسوية، خاصة بعد وقف واشنطن تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا».
كما أن التوتر بين الجانبين ازداد بعد التسريبات الإعلامية، التى كشفت عن استبعاد القدس من الصفقة، مع المضى فى قرارات تجميد المساعدة المالية للسلطة، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهى الخطوات التى رأى الفلسطينيون أنها تهدف إلى إجبارهم على قبول خطة السلام الأمريكية.
ونتيجة لذلك، نشبت حرب تصريحات خلال الفترة الأخيرة بين محمد أشتية، رئيس الوزراء الفلسطينى، والمبعوث الأمريكى الخاص بشأن الشرق الأوسط جيسون جرينبلات، دارت فى مجملها حول الرفض الفلسطينى للصفقة.
وقبل أيام صرح رئيس الوزراء الفلسطينى بأن «كل مبادرة لا تدعو إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلى وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة عاصمتها القدس الشرقية تقام على حدود 67، وتحل مشكلة اللاجئين فإنها غير مقبولة من الفلسطينيين».
فى المقابل رد المبعوث الأمريكى على التصريح بقوله: «فى واقع الأمر أنت تقول أعطونا الصفقة التى نطلبها، وإلا فلا صفقة، لكن كيف يمكن ذلك؟ وهل تريد أن تقود شعبك نحو التنمية أم أنك ستواصل إطلاق التصريحات ذاتها مرة بعد أخرى؟».
كما اتهم «أشتيه» الأمريكيين بأنهم شنوا حربًا مالية ضد الفلسطينيين وقال: «لا يوجد شركاء فلسطينيون لترامب، وليس له شركاء بين الدول العربية، وليس له شركاء أوروبيون، لذا فالخطة ولدت ميتة».
ومثلت التصريحات السابقة لـ«أشتية» تلخيصًا للواقع على الأرض، خاصة فى مسألة رد الفعل المتوقع من جميع الأطراف المعنية، خاصة فى المنطقة العربية حيال طرح الصفقة، رغم الآمال الأمريكية بقدرة واشنطن على تجاوز ذلك.
فقبل أسابيع، أعلن الأردن أن السلام بدون القدس الشرقية لن يكون، وبحسب تصريحات الساسة فى عمان فإن المملكة ستجد صعوبة فى تأييد خطة تسوية لا تتضمن دولة فلسطينية أو حلًا لمشكلة اللاجئين.
وبحسب التقارير العبرية، فإن المخاوف الأردنية تصل إلى خشيتهم من وجود خطط لدى الإدارة لتوطين مزيد من اللاجئين الفلسطينيين فى أراضيهم أو اقتطاع أجزاء منها لتوسيع الكيان الفلسطينى الجديد.
وأدت المخاوف الأردنية إلى دفع واشنطن لنفى التخطيط لإقامة كيان كونفيدرالى يضم فلسطينيين إلى الأردن، وظهر ذلك فى كتابات المبعوث الأمريكى «جرينبلات» على صفحته الرسمية بموقع «تويتر» التى أكد فيها أن هذه ليست الخطة.
وبحسب تقارير عبرية وأمريكية، فإن الدبلوماسيين فى واشنطن قلقون أيضًا من الموقف المصرى من خطة السلام، خاصة أن رفضها للخطة سيدفع دولًا أخرى فى المنطقة لرفضها، وربما يؤثر أيضًا على علاقات السلام بينهما وبين إسرائيل.
ووفقًا لمحللين، يراهن البيت الأبيض على قبول الدول الخليجية لـ«صفقة القرن» فى ظل العلاقات الجيدة بينها وبين الإدارة الأمريكية، كما يأمل فى الفصل بين الموقف الفلسطينى والموقف العربى الذى سيكون أكثر انفتاحًا على الخطة رغم إبداء بعض التحفظات.