رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"ثلاثاء المُحبّين".. حكايات الشاطر خيري عبد الجواد وست الحُسن فاتن

 أبناء خيري عبد الجواد
أبناء خيري عبد الجواد


«طوبة دهب وطوبة فضّة»، هكذا تبدأ إحدى قصص ألف ليلة وليلة التي استلهم منها الروائي والقاص الراحل خيري عبد الجواد قصصه، إضافة لاستلهامه القصص الشعبية والأساطير.

لم يكن يدرك خيري عبد الجواد أنه يقرأ القصص والحكايات التي سيصبح يومًا بطلا من أبطالها وأسطورة أخرى جديدة تضاف لذلك العالم المذهل من الحكي الملئ بالتعجب والغرابة.

لم يكن يدرك أن الشاطر الذي كتبه في قصصه لا يسمى حسن وإنما خيري، ولم تكن تدرك أن ست الحسن هي فاتن، ولم يكونا يعرفان أنهما حين أحبا بعضهما بصدق وقوة كانا ينسجان حكاية اسطورية بخيوط سميكة من صبر قوامها المحبة والصدق..

«الدستور» زارت بيت خيري عبد الجواد وقابلت أبنائه ثمرة هذا الحب العظيم، والذين أكدت وجوههم أنهم يمتلكون نفس قوة وعزيمة خيري ونفس بهجة وصدق فاتن.

في البداية، فالابن الأكبر هو باسم تخرج في كلية الآداب قسم لاتيني ويوناني، والثانية هي رضوى خريجة فنون جميلة، وآخر العنقود أحمد وهو في الصف الثالث الثانوي.

اتفق ثلاثتهم أن لأبيهم تلك القصة العظيمة التي نسجها الزمن على مهل وبتؤدة وكان يشهد نجاحها الكثير من الأدباء والمثقفين منهم يوسف فاخوري وسعد القرش، وأحمد أبو خنيجر وسيد الوكيل والدكتورشوقي عبد الحميد والدكتور رفعت السيد وغيرهم..

أما عن البداية، فقالوا إنهم عرفوا الحكاية من ترديد الأم لها والتي جاءت سطورها كالتالي
كان خيري وفاتن يسكنان نفس الشارع ببولاق، وكان خيري ابنًا لأب يعمل بالبناء، والابن تعلم من أبيه كيف يرص القالب على القالب ويزنه بخيوط وعقل، فينتج حائط لا يقبل الميل، وأثبت خيري أنه تلميذ نجيب، راح يضع القالب فوق القالب في قصة حبه مع فاتن، وراح يفرش قلبه بين الفواصل؛ حتى أنتج حائطًا لا تهمه تلك التفاصيل الصغيرة التي تهم الناس العاديين، ما الذي سيحدث لو أننا لم ناكل لليلة أو حتى لليال متتالية، لا شئ ما الذي سيحدث لو اننا بكينا كثيرا وتعذبنا، لاشئ سوى قلوب تتعلم الصبر على الضيم، وتكافح كل ذلك بأذرعة من محبة..

كان خيري يحب البنت فاتن التي تطل من الشباك مع كل مرور جميل له، كانت تنتظره بالساعات حتى يمر فترمي ريحها العطر فيتعثر فيه خيري فينظر إلى الأعلى، ولكي يعبر عن محبته قال أبناؤه إنه كان يكتب خطاب المحبة لها ويضعه بين دفتي رواية ويرسله مع قريب لها، فتقرأ الرواية والخطاب، وترسل له الرد، وهكذا مضت الأيام تدفع بعدها، حتى اشتد عليهما الحب، فاتفقا على أن يذهب ليُفاتح والدها لم يكن خيري يعمل وقتها ولم تكن فاتن قد جاءتها الوظيفة.

ذهب خيري لوالد فاتن، ولأن حال الشباب كلهم مثل خيري فلا عيب لأن الكارثة على مجتمع بأسره وليس على خيري وحده، ومن باب أن الشيوع في الظلم هو في الأساس عدل وافق والد فاتن، وتمت خطبتهما، وأعلناها للملأ حبيبًا وحبيبة.

كان خيري يملك فقط مساحة سطح بيتهم ومن أين يبني ومن أين سيكون له بيت، والفتاة «مربوطة» بيده بحبل غليظ يلتف حول إصبعه.

حكى لها وهي البنت المدربة راحت تقنعه أنه مسرف وأن العشرون جنيهًا التي يصرفها كل يوم على المقهى سيكون لها فائدة عظيمة، «وعشرين فوق عشرين بينهما صبر تصنع بيتا».

من وقتها راح خيري يعطي للبنت المدبرة كل نقوده، وراحت تدخر وكلما أكملت ثمن ألف قالب من الطوب الأحمر دفعتهم وركنت الطوب فوق سطح البيت، وهكذا الرمل وهكذا الأسمنت وقالت لخيري الذي راح يستدعي معرفته بعالم البناء من واقع عمله مع والده، وراحت البنت تقف بجواره وتناوله الاسمنت والطوب وراح البناء يرتفع معلنًا عن بيت سيحوي الحبيبان قريبًا، واكتمل البناء بعزيمة قوية، وسطحاه بالبوص مؤقتا حتى انفرجت الحال وتمكنا من سطح البيت بالخرسانة المسلحة، وبعد أن أخذ البيت من وقتهما وراحتهما راح يدفع كل هذا مرة أخرى تجاههما فتزوجا وظلل البيت عليهما فكأنه يدا أم رؤوم تحتضن أبنائها الذين طاوعوها فأسعدتهم.

وبعد الزواج كانت فاتن تعرف أنها أمام أديب كبير فراحت تُكرّس نفسها لخدمة هذا الأديب، حتى أنها قالت له، لا تحمل هما للبيت وهذه مسألة لا تدعها تشغلك أنت أمام قراءة وكتابة، وبالفعل كانت توفر له كل سبل الراحة، وبعد وظيفتها بعد عام واحد من الزواج وبعد أن رُزقت بباسم، كانت تدبر حالها بطريقة مذهلة.

في السنوات التالية وبسبب قدرة فاتن بنى خيري وفاتن شقة أخرى أمام شقتهم في المساحة الخالية، وبعد وقت استطاعا أن يبنيا الدور الرابع بالكامل لهما وتركا شقت الدور الثالث وقام خيري بتأجريهم.

وفي الشقة الجديدة بالدور الرابع خصصت فاتن لخيري حجرة كبيرة جدا تكون مكتبا لخيري به كتبه ومكتب للقراءة والكتابة ووفرت له كل سبل الراحة، ولكن كان لخيري اصدقاء كثر بحكم كونه كاتبا كبيرا، وأكثر جلوسه يكون بوسط المدينة في الأتيليه وغيره، فاتفقا على أن يستأجرا مكتبًا عبارة عن غرفتين في الدقي، لتكون مكتبا له بدلًا من الغرفة التي ببيتهم
◘ النوم أمام القسم في انتظار زوجها

بعد الزواج رجعت فاتن في يوم فلم تجد زوجها، وعرفت أن خيري داهمت الشرطة منزله بغرض تجنيده، كان وقتها يبلغ من العمر 29 عامًا، ذهبت فاتن إلى القسم فلم تره ولم يسمحوا لها بالدخول، كان قلبها محموم وبه شعلة تتأجج من نيران، لم تقدر على الرجوع، وظلت لأيام أمام القسم لا يهمها أن تأكل او تشرب حتى تطمئن على روحها التي فارقتها منذ فارقها خيري، ويوم اطمئنانها يوم أن هدأت لوعتها فرجعت إلى بيتها وذهب خيري ليكمل تجنيده، وكان الشباب المجند معه يصغره بتسعة أعوام حتى انهم كانوا ينادونه بالعم خيري
◘ مشروع دار نشر.. وحي الهرم الأكثر أمانًا

فكّر خيري وفاتن في إنشاء أكثر من مشروع خاص بهم، فاتفقا على إنشاء مشروع دار نشر وبالفعل قاما بتنفيذ مشروعهم وكان يريد تسميتها بدار رضوى، ثم استقر على تسمية الدار بالـ"السندباد"، وبالفعل نشر مجموعة من الكتب منها ترجمة لإيتالو كالفينو والعين الثالثة، وكان عبد الجواد يحاول لكن المشروع انتهى بإغلاق الدار تماما.

قبل وفاة خيري فكرت فاتن مع خيري في أن ينتقلا للسكن في حي آخر غير بولاق، كانت بولاق قد أصبحت مثلما أطلق عليها "الصين الشعبية" وكثرت فيها الجرائم وغيرها، وفي البداية رفض خيري، رفض لأن بولاق هي المكان الذي استقى منه قصصه في صور وجوه الناس المتعبة والذين ضفرهم بخيالاته فمنحت القصص أرواحا كانها تمرح عبر السطور، وكان يجد ان انتقاله من بولاق ضربة لإبداعه في مقتل، من اين يرى تلك الوجوه وكيف يكتب بعيدا عن بولاق التي عاش فيها طفلا وصبيا وشابا، وكيف يترك ذاته وذكرياته التي تمرح بين شوارعها، لكن فاتن استطاعت اقناعه بالأمر وبالفعل راحت فاتن تبحث عن منطقة لتبدأ حياة جديدة مع أبنائها، واهتدوا إلى منطقة ناصر الثورة وهي المنطقة التي تتوسط فيصل والهرم، وبنيا بيتهما هناك، وانتقلا للعيش فيه.
◘ كيف لا يأتي خيري بعد رحيله؟

كأي اثنين تربّيا على القراءة، اتفق فاتن وخيري على أنه من يموت أولا يأتي لصاحبه ولا يتركه للعالم وحيدا، ولا يترك قلبه يخفق مع كل صورة يراها لصاحبه، وكان مرض السكر الذي داهم خيري عام 2008 ومنحه صك الراحة الأبدية، وراحت فاتن تنتظر مجيئه كما اتفقا، كانت تنظر من حولها كلما سمعت قطة تعبث في المطبخ أو ريح تهز ستائر البيت، هل هذا هو خيري وقد صدق في وعده، ربما أتى ليقول لها أنا معك بروحي، وكانت تتخيله يقف قدامها مثل فارس قديم على صهوة جواد مجنح سيحملها معه عليه ويطيرا ليكملا ما بدآه في الدنيا، وحين تفيق من خيالاتها ترجع إلى حالها تبكي وتقول اللهم الحقني به فالوجع اشتد والروح تنادي خيري.. خيري.
◘ مرض فاتن بعد خيري

ربما لم يكن مرضا بقدر ما كان جواز مرور إلى خيري، هي في الحقيقة عافرت ليس من أجل الحياة، ولكن من أجل ثلاثة أرواح معلقة بثوبها، في البداية كانت تشعر بألم لكنها لم تكن تعرف ما الذي تدسه الأيام عنها، ولأنها تعلمت الصبر قديما فصبرت، لكن الوجع اشتد، حتى لم تقدر فأسلمت الأمر وذهبت لتكتشف أنها مصابة بسرطان الثدي.

كان الأمر مثل عاصفة داهمتها على حين غفلة، واضطرت لإجراء جراحة عاجلة، واستسلمت تماما للأطباء وهم يعطونها جلسات الكيماوي الحارقة، وتغير وجه فاتن، وراحت تكبر قبل أوانها، وكأن ملك الموت كان يزيد في عمرها رأفة بها وبقلبها الذي لازال يحيا فيه خيري، ورجعت إلى بيتها وبعد مدة أخرى اتعبها ظهرها، فاستشارت دكتور فقال لها لا تقلقي وأعطاها بعض الحقن، وصدقته فاتن، لكنها اكتشفت بعد ذلك أنها خلية سرطانية أخرى تسللت إلى عظام الظهر واستكانت وراحت تنهش في الجسد، ومرة أخرى إلى دوامة العلاج اليميائي والإشعاعي، ومرة أخرى إلى تلك الجلسات التي تنشر في عروقها نارا مثل بركان نشط في عروقها، كانت تذهب للجلسات اسبوعين وترتاح اسبوعا، وفي إحدى الأسابيع وبالضبط في 16 يناير، ارتاحت فاتن إلى الأبد، وراحت إلى نفس العنوان الذي ذهب غليه خيري، العنوان الذي لا ولن يخطئ أحدا
◘ أبناء خيري.. وبذور الموهبة.. وفاتن التي جعلت لكل منهم شقته

بعد موت خيري كانت الام تقف وحيدة تتعكز على أبنائها الثلاثة، كانت تخاف من يوم لا يجد فيه الأبناء بيتا يأويهم مع زوجاتهم، فادخرت مرة أخرى واستطاعت أن تشتري شقة لابنها الأكبر باسم، وأيضا أوصتهم أن يمنحو الشقة التي يسكنون بها في حي فيصل لأحمد، أما رضوى فلها مثلهم، وماتت فاتن بعد أن لفت وحاوطت مركب أبنائها بوشاحها، ونزلت مثل عملاق في البحر وجرت سفينة الأولاد إلى بر الأمان وارتاحت تماما على الشاطئ.

من الطبيعي جدًا أن الموهبة جين أصيل يجري في عروق الاب، ومنه انتقل للام التي منحت للدنيا 3 أبناء يحملون اسم خيري عبد الجواد، أولهم باسم الذي اتجه للموسيقى وأصبح ملحنًا يُعافر، حتى يجد له مكانا بين العظام، وفي طريقه إلى تحقيق ذلك، وثانيهما رضوى فنانة تخرّجت في كلية الفنون الجميلة، ولها يد تعرف الوصول للتفاصيل الدقيقة، فخلدت أبويها في لوحات لا تختلف في أي تفصيلة عن الأصل، رسمت رضوى الصور بنفس رؤيتها لأبويها، فخرجت الصور وكأنها لملائكة أطهار في شكل خيري وفاتن، وكانهما سيتحرّرا من البرواز بجناحين ليطيرا في رحاب جنات الله.

أما الابن الأصغر فهو أحمد وهو فنان موهوب يدرس في الصف الثالث الثانوي لكنه يرسم بموهبة كبيرة وسبق له ان نشر في صغره بمجلة قطر الندى وغيرها، وهو يعمل في الرسوم المتحركة وله فيديوهات يدشنها على قناة باليوتيوب، هكذا كافئ الله خيري وفاتن في ان جعل على الأرض من يكملون مسيرتهما ويحملون أسمائهم ليمسكوا بشعلة ينيرون بها الانفاق المظلمة، بعد ان غير الابوين عنوانهما إلى محل إقامة جديد
◘ وصية فاتن الأخيرة: «ادفنوني بجوار خيري»  هل كانت مصادفة أن تموت فاتن في نفس الشهر والأسبوع وحتى اليوم، فكلاهما مات يوم الثلاثاء، فاتن توفت في الثلاثاء 16 يناير، وخيري توفى في الثلاثاء 23 يناير، وقبل موتها كانت تعرف أن هناك دلائل مؤكدة لرحيلها، فجمعت أبنائها وأوصتهم على بعضهم، وأوصت أكبرهم باسم بهم خيرا، وطلبت منهم أمنية أخيرة، أن تدفن بجوار زوجها الراحل في كوم الضبع بالمنوفية، بالرغم من انها في الأساس من قرية العمار بمحافظة الشرقية، وبالفعل أسلمت فاتن روحها لبارئها، وحرص أبناؤها على تنفيذ وصيتها ومطلبها الاخير، فنقلوها إلى كوم الضبع بالمنوفية، وهناك حفروا قبرا بجوار قبر خيري عبد الجواد ودفنت فاتن بجوار زوجها الراحل.