رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سامى السلامونى وفؤاد معوض وبينهما رجاء ‏النقاش

سامى السلامونى
سامى السلامونى

سامى السلامونى: «كنا نتقاسم اللقمة والربع جنيه وكوب الشاى»‏

السلامونى عن معوض: «نزواته متواضعة جدًا لا تتعدى نفسًا من البورى»‏


كأنه جاء إلى الدنيا لكى يسخر منها، السخرية هى مهمته الأولى فى الحياة، يؤديها بلا كلل ولا ملل، كأنه لا يعرف من آيات القرآن سوى «إن تسخروا منا فإنّا نسخر منكم كما ‏تسخرون»، كل شخص وشىء عنده قابل للسخرية حتى من نفسه.. أفاض الله عليه من موهبة الكتابة الساخرة فأتقنها وأبدع فيها وصار علمًا عليها.‏
لا يعجبه العجب، ودائم النقد والتبرم والغضب، وفوق ذلك لديه «أنفة» الدنيا وجبل من الكبرياء، قد لا يكون فى جيبه سوى علبة سجائره، ومع ذلك يمشى كمهراجا هندى ‏وكطاووس إنجليزى، لا ينحنى ولا يساوم ولا يخضع ولا يحسب حسابًا لأحد ولا لمكسب، ولذلك بدا لى مشهده فى المرة الأولى، التى التقيته فيها مفاجئا ومدهشا، وعلى عكس ‏كل الصور الراسخة عنه، فما إن رأى الرجل الذى كنت بصحبته حتى اندفع إليه بحماس وراح ينزع منه يده ليقبلها.. لم يكن مشهدا تمثيليا ولا هزليا ولا أثر للهزار فيه، بالفعل ‏فإن هذا الساخر الكبير كان مستعدا بحق لتقبيل يد الرجل المهيب لولا أنه انتزعها منه وتعانقا بحنو وبفيض من المحبة غامر.‏
أما الساخر الكبير فهو أستاذنا فؤاد معوض، الذى يعرفه الناس باسم «فرفور»، لقبه الذى شاع وذاع حتى نسى الناس اسمه فى شهادة الميلاد، أما الرجل المهيب الذى انتزع ‏منه يده قبل أن يقبلها فهو أستاذنا الناقد الجليل رجاء النقاش. ولما عرفت السبب من فرفور فيما بعد فإن قدره عندى زاد وفاض.. وهو ما سيحدث لك أيضا إذا ما سمعت من ‏فرفور تلك الحكاية بأسلوبه المبهر فى الحكى، فرفور لا يحكى بل يقدم لك مشهدا فيه كل فنون الدراما. ‏

الناقد الكبير انتزعهما من حياة المقاهى إلى رحاب «دار الهلال» وتوسط لهما عند أحمد ‏بهاءالدين

يقول فرفور: «وقتها كان فيه قهوة مشهورة اسمها (إيزافيتش) فى وسط البلد، كان يقعد عليها الغلابة من الصحفيين والشعراء الجدد، يعنى كنت تلاقى فيها الأبنودى وعبدالرحيم منصور وسيد خميس ‏وغيرهم، وكانت هى مكانى المفضل مع صاحب عمرى سامى السلامونى، كنا نروح نفطر ونشرب شاى على (النوتة) وندفع الحساب حين ميسرة، وفى يوم الصبح كنت قاعد أنا وسامى وقدامنا ساندوتشين ‏فول وكوبين من الشاى الساخن، فجأة لقيت رجاء النقاش نازل من تاكسى، قلت لسامى: الأستاذ رجاء آهه، شكله جاى يفطر، لكن رجاء اتجه إلى حيث نجلس مباشرة وسألنا بدون سلامات: إنتم قاعدين تعملوا ‏إيه هنا؟، وقبل أن نجيبه قال بحسم: قوم تعالى معايا إنت وهو.‏
ووجدنا أنفسنا فى نفس التاكسى الذى كان ينتظره، وبعد دقائق كنا فى مكتب أحمد بهاء الدين فى دار الهلال، وكان يرأس مجلس إدارتها، وقال له رجاء وهو ينظر تجاهنا: هم دول اللى عايز أعينهم، وكان ‏رجاء قد تولى رئاسة تحرير الكواكب، وضرب أحمد بهاء الدين جرسا، وخلال دقائق جاء مدير المستخدمين ومعه عقود تعييننا محررين فى دار الهلال مقابل ٣٥ جنيها لكل منا، يعنى رجاء النقاش جابنا من ‏القهوة وعمل مننا نجوم فى الصحافة، لكن الأمر ظل يشغلنى، وكان عندى فضول، لأن أسأل رجاء: إشمعنا أنا وسامى بالذات؟، وصارحنى بأنه يتابع عمودى الساخر، الذى كان ينشره لى الأستاذ عبدالفتاح ‏الجمل فى (المساء) بعنوان (نص ضحكة)، ويتابع ما ينشره سامى من نقد سينمائى على نفس الصفحة - وهنا لابد أن أدعو بالرحمة لعمنا عبدالفتاح الجمل صاحب الأيادى البيضاء على أجيال من المبدعين ‏والكتاب الجدد-، ولفت ما نكتبه نظر عم رجاء.. هذا الجواهرجى الباحث دائما عن المواهب المدفونة.‏
وأعطانى أنا وسامى فرصة عمرنا فى (الكواكب)، ولما صدر قرار بتعيينه رئيسا لتحرير مجلة (الإذاعة والتليفزيون) أخذ معه سامى وعددا آخر من الزملاء منهم سامى خشبة ومحمد بركات، ولم يكن ‏اسمى بين المختارين، وهو ما ضايقنى بشدة وشككنى فى موهبتى، فرحت له مكتبه وسألته بعتاب: إشمعنى أنا اللى مش واخدنى معاك؟، فصارحنى بأنها رغبة الأستاذ بهاء وأنه اشترط عليه أن يتركنى فى ‏الدار، لأن رئيس تحرير الكواكب الجديد راجى عنايت متمسك بى، لكنى بلا تردد ولا حسابات طلبت منه أن يأخذنى معه وأصررت على طلبى، فأخرج لى عقدا وطلب أن أضع المبلغ الذى يرضينى، قلت: ‏خلينى زى الزملاء، وكان قد وضع لكل منهم ٤٠ جنيهًا، فميزنى عنهم بخمسة جنيهات زيادة.. بعد ده كله مش عايزنى أعشق رجاء النقاش؟».‏

نص مقال لـ«السلامونى» عن صديقه «الصعلوك الأعظم» ممنوع من النشر لاستشعار ‏الحرج

كان رجاء هو الأستاذ والأب الروحى لفرفور، لكن سامى السلامونى كان هو الصديق ورفيق رحلة الصعلكة والفول والفقر.‏
سيرة السلامونى كفيلة وحدها بأن تعدل مزاج فرفور وترسم البسمة على وجهه وتجعله يطلق العنان لحكاياته عن أيام الصعلكة، ويروى لك ما يسرك عن قديس النقد السينمائى وعن أزماته المادية ‏المزمنة، وكيف كتب عليه زمانه القاسى أن يعيش فى حجرة متواضعة، فلما فتح الله عليه وامتلك شقة صغيرة فى مدينة نصر راح يزين حوائطها بصور نجومه المفضلين. ثم مات.‏
كتب سامى السلامونى عن فرفور مقالين، الأول نشره فى مجلة «كلام الناس» بمناسبة زواج فرفور، وكان مقالا ساخرا يودع فيه زميل الصعلكة العتيد الذى قرر أن يدخل القفص بكامل قواه العقلية، ‏ويتمنى له أياما هانئة مستقرة مع «الطبيخ، والمحاشى» مودعا «سنوات الساندوتشات» الطويلة والمريرة.‏
أما المقال الثانى فلم يُنشر لسبب غريب: «استشعار الحرج»، يحكى له فرفور قصته: لما توليت مسئولية تحرير مجلة «كاريكاتير» اتصلت بسامى طالبا منه أن ينضم لكتاب المجلة «كنا فى أوائل العام ‏‏١٩٩١»، رحب من أجل خاطرى وأرسل لى مقاله الأول، وفوجئت بأنه كتبه عنى، ووجدت نفسى فى حرج بالغ، فكيف أنشر مقالا عنى فى مجلة أنا مسئول عنها بقلم أعز أصدقائى.. وكان الحل أن أطلب ‏من سامى مقالا آخر، واحتفظت من حينها بالمقال البديع، الذى كتبه عنى ومنعته من النشر «استشعارا للحرج». المقال الذى يحتفظ به فرفور بين أوراقه إلى الآن عنوانه «فرفور وأنا.. والمستقبل لنا»، ‏وأهداه لنا كاتبنا الساخر الجميل فؤاد معوض لننشره تحية لذكرى رحيل سامى السلامونى ٢٥ يوليو ١٩٩١.‏
وهذا هو نص المقال، كما كتبه السلامونى بخطه: فرفور وأنا.. والمستقبل لنا.‏
عرفت اسم «فرفور» فى البداية كقارئ عادى يتابع بابًا كان يكتبه فى مجلة الكواكب وينشر فيه أشياء خفيفة الدم.. لكنى كنت أحس وراءها بنغمة سخرية مريرة لا تدعى أى شىء.. ولكنه مجرد قلم ‏يختفى وراء هذه الخفة والسخرية ليعلن «للأذكياء فقط» عن زهقانه من حياة فنية يبدو أنه قريب منها تماما ومختلط بها ولكنه ليس مبسوطا منها بحال من الأحوال.‏
ثم شاء حظى بعد صعلكة وتشرد طويلين فى أدغال الصحافة المصرية أن أعمل أنا نفسى فى الكواكب فى آخر تلك الأيام العظيمة للصحافة المصرية.. حينما كان ممكنا أن يلتقط رجاء النقاش بعينه ‏الخبيرة صحفيا صغيرا «صايع» من على مقاعد المقاهى التى كنا نجلس عليها طوال النهار والليل لنقرأ ونكتب ونأكل ونشرب ببريزة واحدة فى اليوم «عندما كانت «البريزة» مازالت عشرة قروش فعلا ‏وليست عشرة جنيهات كما أصبحت اليوم»، لكى يقدمه إلى كاتب كبير مثل أحمد بهاء الدين، رئيس مجلس إدارة دار الهلال حينذاك، فلا يتردد فى تعيين هذا «الولد» الذى لم يقرأ له سوى بضعة أعمدة أو ‏مقالات سينما بالقطعة هنا أو هناك.. محررا على الفور وبمرتب ثابت «٣٥» جنيهًا كانت أيامها مبلغا يكفى لتغطية احتياجات الشهر كله من ساندوتشات الفول والطعمية وأكواب الشاى والقهوة التى كنت ‏أستهلكها فى قهوة «إيزافيتش» فى ميدان التحرير وتكاليف الصحف والمجلات والكتب ودخول السينما كل يوم، أجدع فيلم بخمسة قروش ونصف وفى أجدع سينما أيضا.‏
وفى «الكواكب» وجدت نفسى موظفا رسميا فى الصحافة لأول مرة وبعد عشر سنوات كاملة كنت أحاول فيها باستماتة أن أهرب من قيود وظيفة حكومية لم أفلح فيها على الإطلاق فى «إدارة الكهرباء ‏والغاز» وأنا الذى لم يكن فى حجرتى بمعروف لا كهرباء ولا غاز.. لكن كان مطلوبا منى أن أضبط حسابات كهرباء وغاز مواطنى القاهرة.. تصوروا.‏
من هنا لكم أن تتخيلوا مدى فرحتى بالانتقال أخيرا إلى جو الصحافة فى تلك الأيام من عام ٦٨.. وحيث وجدت نفسى زميلا لمجدى نجيب ومحمد بركات وفرفور الذى اكتشفت أن اسمه الحقيقى فى ‏البطاقة الشخصية هو فؤاد معوض.. رغم أننى أشك أن فؤاد معوض هذا له أى بطاقة شخصية أو أنه تابع لأى قسم بوليس رسمى معروف من أقسام الجمهورية أو محل ميلاد معروف وبالتالى من ‏المستحيل تحديد تاريخ هذا الميلاد.. حيث مازال ومنذ أن عرفته من ربع قرن على الأقل يصر على أنه فى الثامنة والعشرين.. وبالذات أمام الفتيات اللاتى يصدقنه للأسف الشديد.. لأن شكله الذى لا يتغير ‏أبدا للأسف الشديد أيضا.. يؤكد ذلك.‏
ولكن أعتقد أن فؤاد معوض هو من جيلى بشكل ما، وهو الجيل الذى ينتمى لثورة ١٩ ولكنه لم يلبس القميص والبنطلون ويعرف القراءة والتمرد إلا مع ثورة ٥٢، ولكنه فى حاجة إلى ثورة جديدة الآن ‏لكى يستقر ويرتاح ويأخذ مكانه الصحيح الذى يستحقه.. فين؟ ما تعرفش.. ولم يكن هذا هو المهم على أى حال عندما تعرفت على «فرفور»، وإنما كان الاكتشاف الخطير هو أننى وجدت أمامى فجأة ‏شخصا حيا من لحم ودم كأنما تركزت فيه كل رغباتى المكبوتة قبل ذلك فى الصياعة الحرة التى لا تكترث لأى شىء، ولا نريد فى نفس الوقت أى شىء، لا الفلوس ولا المناصب ولا المطامع الوهمية عند ‏الآخرين فيما يعتبرونه: المجد والمركز والكرسى والبيت الهادئ الفخم.. فكل هذه أشياء لم تكن تعنينى شخصيا على الإطلاق، كل ما كان يشغلنى أن أعمل ما أحبه وبإخلاص وانهماك كامل، وأن أملك ‏حريتى فى أن أقول رأيى بشكل ما.. ثم أجلس على القهوة بعد ذلك لأشرب الشاى وأتفرج على المارة وأستمتع بالحياة بقدر ما هو متاح، وكل هذا وجدته بحذافيره فى فرفور، ومن يومها وحتى الآن لم ‏نفترق على الإطلاق، اختلفنا واتخانقنا كثيرا على أشياء تافهة، وقد يختفى هو أو أختفى أنا فلا نرى بعضنا لشهور، ولكننا بمجرد أن نلتقى نكون كأنما تركنا بعضنا بالأمس فقط ولا تصبح هناك أى مشكلة، ‏نبدو ضاحكين أحيانا ودماغنا رايقة لا يشغلها شىء، ولكن سحابات الحزن فى عيوننا عندما نصمت أحيانا تكشف عن هموم أكثر جدية من أساتذة ودكاترة كبار يبدو مهمين للغاية وهم ليسوا كذلك.‏
ونموذج فرفور كما عرفته يؤكد ذلك، فهو صحفى موهوب من الطراز الأول يعرف كيف يختار العنوان والصورة والتعليق الظريف، وعندما أعطاه زميلنا الأستاذ محمد جلال الفرصة عندما كان رئيسا ‏لتحرير مجلة الإذاعة الفرصة لصنع شىء صنعه وعلى أفضل ما يكون حينما خرجت إمكانيات الصحفى الحقيقى من وراء قناع «الفرفور»، ولكن مشكلة الصحافة المصرية أنها قد تستخدم «الفرافير» ‏أحيانا ولكن عندما تجىء إلى المناصب تمنحها للبهوات والدكاترة الذين قد يجيدون لبس البدلة والكرافتة ولكن لا يجيدون الكتابة، لأنه من سوء الحظ أيضا أن نموذجا مثل «فرفور» فنان ومجنون ومنطلق إلى ‏حد «الإبداع من بعيد» بمعنى أنك يمكن أن تأخذ منه أعلى مستوى شغل كما تريد بشرط ألا تُجلسه على كرسى وتضبطه بمواعيد أو تحمله مسئولية.. فهذه مشكلة نوعنا من البشر التى تجعلنا نخسر الكثير، ‏ولكننا راضون بها لأننا نكسب حريتنا فى «الصياعة» والتحليق بأى أجنحة فى أى مكان وفى أى وقت، ومع ذلك فأرجو عدم فهم مسألة «الصياعة» خطأ، فهى من واقع نموذج «فرفور» صياعة فنية ‏أخلاقية وملتزمة تماما ولكن بدون أى ادعاء لفضيلة كاذبة، فعندما عملت فى الكواكب كان فرفور أول من علمنى أن أنزل إلى المطبعة لأصحح «بروفات» شغلى بنفسى على «البنورة» مع عمال المونتاج ‏ولو فى الثانية صباحا، وأول من علمنى أن مصادقة عمال المطبعة وشرب الشاى معهم أهم من مصادقة رئيس التحرير.. وحيث يصبح العمل الصحفى حبا وجمالا ومتعة وليست صراعات مصالح زائفة ‏لا تصنع صحفيا حقيقيا، وعندما أخذنا رجاء النقاش لنعمل معه فى مجلة الإذاعة بعد الكواكب وضعونا: فرفور ومحمد بركات ومجدى نجيب وأنا فى حجرة واحدة سرعان ما ملأنا حوائطها بالصور الجميلة ‏ورسوم مجدى نجيب المجنونة.. زهور وفتيات جميلات وعفاريت.. فكنا نعمل بجد طول النهار فى أفضل أعداد رجاء النقاش فى تلك المجلة وحيث قضينا أجمل أيامنا نأكل أى ساندوتشات على المكاتب أو ‏نذهب إلى أى مطعم كباب فى السيدة زينب ونعود إلى العمل كأننا لا نريد أن نذهب إلى بيوتنا، لأنه لم تكن لنا بيوت فى الواقع، أو لنا بيوت ولكننا نكرهها لأننا لسنا من فصيلة البيوت.‏
وأيامها كنا نتقاسم اللقمة والربع جنيه أحيانا وكوب الشاى، ثم تكون متعتنا الوحيدة أن نقضى ما تبقى من اليوم والليل نفسه فى الهواء الطلق وعلى المقاهى والأرصفة، رغم أن فرفور هذا لا يشرب شيئا ‏على الإطلاق إلا الشاى و«البورى» وهو نوع من «التمباك» الرخيص فيما أعتقد.. فهو لا يشرب حتى السجائر رغم أن شكله يبدو خبيرا داهية بينما هو فى منتهى السذاجة و«نزواته» متواضعة جدا لا ‏تتعدى كوب شاى «ونفس من البورى» على رصيف قهوة «الفراخ»، فليس فى مصر كلها خبير قهاوى مثل فرفور، الذى يعرف أى قهوة فى أى زقاق أو «شق» فى حوارى القاهرة، وهو الوحيد الذى ‏يستطيع أن يدق على باب أى مقهى فى أى حارة فى الرابعة صباحا فيفتح له القهوجى النائم جوه، ويولع الوابور، ويصنع له الشاى ويرص له البورى وهو يقول: صباح الفل يا أستاذ فرفور.. فهو ‏الصعلوك الأعظم صديق كل الصعاليك فى عالم القاهرة الأرضى ولكن النظيف.. وهو مخلوق ليلى يعمل بالنهار أو لا يعمل بمزاجه، ويسهر الليل فى كل الشقوق والدخانيق البريئة، لأنه يجيد معاملة البشر ‏حتى يحبوا «قعدته»، حيث يرتاحوا وينفضوا متاعبهم على الأرصفة ويحسوا أنهم حقيقيون، ومشكلتى الوحيدة معه هى حب الفتيات له بينما أنا قاعد ولا حد معبرنى ولا مؤاخذة، وذات مرة فى مرحلة ‏‏«لاباس» ظلت فتاة جميلة وطالبة فى الجامعة الأمريكية، فيما أذكر تجىء كل يوم لتسألنى: الأستاذ فؤاد معوض ماجاش؟، فأقول لها: لأ.. وفى اليوم العاشر كان غيظى قد بلغ مداه فقلت لها: مين فؤاد ‏معوض؟.. فسألتنى بدهشة: إزاى ما تعرفوش؟.. فصحت بغيظ أكثر: هو المفروض أعرفه.. إيه.. شكسبير يعنى؟.. وفرت الفتاة على الفور، وضحك فرفور على الواقعة لأنه يعرف أن منطقة حقدى ‏الوحيدة عليه هو جاذبيته الخاصة هذه للفتيات، وحيث لا يمكن أن ينافسه أحد، وهى جاذبية تنسحب حتى إلى الفنانين الكبار الذين قد يملكون كل شىء ويرتبطون بأقوى العلاقات.. ولكن لا تحلو لهم السهرة إلا ‏مع فرفور.. وحيث يملك هو القدرة على إخراج «الفرفور» الكامن داخل كل منهم خلف غلالات الشهرة والتكلف، فأنت معه تصبح حقيقيا ولا تخجل حتى من أن تكون كبيرا جدا.. ولكن «صايع».. فما ‏هى المشكلة فى أن تمارس ذلك أحيانًا.‏
ولقد كان فرفور صديقا حقيقيا لعبدالحليم حافظ وفى ذروة مجده وربما أقرب إليه من كثير من الأدعياء.. ومع ذلك لم يفكر مثلا فى إصدار كتاب عنه ليربح كما فعل الآخرون.. لأنه فرفور.. يصنع ‏الأشياء لذاتها، وليس لأى مكسب منها.. وربما وجدت فى هذا شيئا منى، فلم يصل لا هو ولا أنا إلى شىء، وقفز الكثيرون إلى أعلى وبقينا على الأرصفة.. نشرب القهوة والشاى ونستمتع برؤية البشر.. ‏ولأننا لا نريد أكثر من ذلك نحس بشكل ما «ولو كانت هذه خيبة» أن المستقبل لنا.‏