رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الاجتهاد فى السياسة دون الأمراض الأخرى


لم أستطع هذا الأسبوع أن أكتب مقال «الوطن» ولا مقال «صوت الأمة»، ولا أن أستكمل مقال السيناريوهات المحتملة فى مصر نظراً لسفرى إلى غزة العزيزة بإذن الله تعالى، من أرض فلسطين المحتلة، كان سفرى إلى غزة للمشاركة فى ندوة مع بعض ورش عمل عن حقوق الإنسان فى الفترة من 5-7/3/2013، برعاية معهد بيت الحكمة، الذى يرأسه الأخ العزيز الدكتور أحمد يوسف بالاشتراك مع مؤسسة جنيف لحقوق الإنسان.

الاجتهاد فى السياسة لا حدود له، يصل فى طرف منه إلى العصيان المدنى وفى طرف آخر إلى استدعاء الجيش لإدارة البلد مرة أخرى، وبين هذا وذاك دعوة للمشاركة فى الانتخابات البرلمانية القادمة ودعوة للمقاطعة ثم تؤجل المحكمة الإدارية العليا الانتخابات فتتيح فرصة للتنفس الطبيعى أو الصناعى أيهما تختار القوى السياسية المتصارعة، والجميع ينكر العنف ولكنه قائم، وكأن شيئاً لم يتغير فى هذا المجال، بل أحياناً يزداد سوءاً عما كان عليه المشهد من قبل. بعض الذين يدعون إلى العصيان المدنى يئسوا من تحقيق أهداف الثورة، ويئسوا من الإصلاح فى الفترة الانتقالية وفق معالم النظام الديمقراطى المستورد من الغرب.

وهناك من يقاطع ويدعو للمقاطعة لأن الانتخابات جزء من نظام كفرى ومخالف للشريعة، وهناك من يدعو للمقاطعة لأن الانتخابات ليست مضمونة وليست فى صالح القوى غير الإسلامية، والذين يدعون إلى المقاطعة فى الانتخابات يئسوا أيضاً من الوصول إلى البرلمان فى الانتخابات القادمة، ومن إمكانية إسقاط النظام القائم رغم فشله الواضح فى إدارة البلاد خلال ثمانية أشهر مضت حدث فيها عنف لا مثيل له وقتل وسحل واعتقال وإكراه وتحرش واغتصاب حتى لبعض المعتقلين، والحرية تتيح المشاركة والمقاطعة دون اتهام لأى طرف لأنها تنبع من رؤية سياسية أو مصلحية.

والذين يدعون إلى المشاركة طبعاً هم الجالسون فى الحكم على رأس النظام ويدركون أن المقاطعة تصب فى صالحهم لأن نسبة المشاركة فى الانتخابات وصحتها غير محددة فى الدستور، أو هم واثقون فى القدرة على الفوز لارتباطهم بالشارع وطبيعة هذا الشعب، الانتخاب بشكل من الأشكال، يراه بعضهم أنه يصب فى صالحهم وفى صالح فوزهم مثل بعض الشخصيات ذات الوزن السياسى حتى من الليبراليين فى دوائرهم، وهناك من يضمن النجاح حتى لو كانوا من الفلول أو المرتبطين بالنظام البائد، فالانتخابات تحكمها مصالح وضوابط لم تتغير فى معظمها حتى بعد الثورة، وتحتاج فى المستقبل إلى إحلال ثقافة جديدة بضوابط جديدة.

المقاطعون يستخدمون سلاح المقاطعة كوسيلة للضغط على النظام الحاكم للتنحى أو تغيير أسلوب الحكم وإيقاف مسلسل الأخونة وتغيير الحكومة القائمة لسوء أدائها وتعديل الدستور، وتغيير بعض مواد قانون الانتخابات، كما أوصت بذلك الدستورية العليا، ويريدون ذلك حتى لو عاد الجيش إلى السياسة وإدارة البلاد، وهم يعلمون أن هذا لا يمكن أن يتم من الداخل فقط، وربما كانت زيارة كيرى والرغبة فى اتصال أمريكا بالجميع والتنسيق معهم تتعلق بهذا الأمر فضلاً عن مناقشة الأوضاع الاقتصادية، أمريكا يهمها الاستقرار السياسى فى مصر إذا كان يصب فى الحفاظ على مصالحها وأمن إسرائيل، وإلا فالفوضى وسلاح الهيمنة غير مستبعد، بما فى ذلك التدخل العسكرى لضمان تلك المصالح بعد تهيئة الأسباب لذلك.

إذا أدرك من فى الحكم ومن يدعون إلى المقاطعة أو المشاركة مصالح هذا الوطن فإن الإنقاذ الحقيقى للوطن يكمن فى الاستقلال الوطنى التام، والاختلاف أو التنوع فى الرأى والاجتهاد السياسى لا يكون أبداً ضد مصلحة هذا الوطن، وكذلك احترام إرادة الشعب، يجب أن تكون دائماً هى الركن الحاضر، علماً بأن النجاح فى إدارة البلاد له علامات وإمارات لم تتضح للأسف الشديد خلال مدة الأشهر الثمانية الماضية، الاستقرار جزء من النجاح والمقاطعة سلاح، والمشاركة هى السلاح الأقوى، إلا إذا وقع العصيان المدنى فى معظم المحافظات وربنا يستر، فلنترك السياسة جانباً لنتأمل فى جزء من الوضع السيئ الآخر.

تصدمنا الأحداث والوقائع المؤلمة، وبعضها قد لا نستطيع له دفعاً فهو من القدر الذى لا نستطيع أن نفر منه، وأحياناً يكون من المقدور الذى ساهمنا فى شدته وقسوته، بإهمالنا أو سوء سلوكنا وتفكيرنا أو تصرفنا أو سوء الأداء. وكان السلف الصالح رضوان الله عليهم، يفرون من قدر الله إلى قدر الله تعالى، ولذلك ينبغى علينا أن نفر من الجهل الواقع علينا أو القائم فينا إلى العلم الذى يذهب تلك الجهالة سواء بفعلنا أو بفعل غيرنا لأننا أمة «اقرأ»، وأمة التفكير فى خلق الله تعالى وفى هذا الكون العظيم، ولكننا لا نفعله، وإن فعلناه فبشكل غير دقيق، رغم أن الرسول «صلى الله عليه وسلم»، علّمنا: إن الله كتب الإحسان على كل شىء.

وعلينا أن نفر من المرض إلى أسباب العلاج حتى فى السياسة، ونحن نؤمن بأن الله تعالى هو الشافى المعافى «وإذا مرضت فهو يشفين»، كما أن الفقر، نتيجة الكسل والإهمال جريمة يحتاج إلى علاج وعلينا فى مصر فوق - ضرورة الخروج من - ذلك الثالوث، الجهل والفقر والمرض، أن نسعى ذلك السعى الجاد، وذلك بحسن استخدام الأدوات اللازمة لهذا الخروج، فالخروج من دائرة الجهل يحتاج إلى مدارس تتكامل فيها العملية التعليمية بجميع أركانها، من المدرسين المؤهلين المخلصين، ومن المناهج الملائمة للعصر والعمر، ومن الطالب الذى يرسله أهله لكى يتشكل، وهو أمانة فى عنق المدرسة والمدرسين. ومن المبنى الملائم للدراسة والمجهز بالأدوات اللازمة حتى لا يفر الطلبة إلى المدارس الخاصة، حرصاً على حياتهم مهما كلف ذلك أولياء الأمور.

ومن أركان العملية التعليمية كذلك التسهيلات اللازمة لتشكيل العقل وإجراء البحث والقراءة كالمعامل والمكتبات، والملاعب اللازمة لبناء الأجسام والوحدة الصحية اللازمة، للكشف الطبى مع الطلبة والاطمئنان على سلامتهم كل صباح إن أمكن، وكل تقصير فى أحد أركان العملية التعليمية يقابله تقصير فى تحصيل العلم وإجراء البحوث والتقدم العلمى وانعكاسات ذلك على التقدم العام واضح فى مصر وضوح الشمس لا يحتاج إلى دليل، رغم الإمكانات الهائلة والنعم الكبيرة البشرية والمادية التى أنعم بها الله تعالى على مصر ولكن معظمها قد يضيع أو هو مدفون فى التراب أو لا يظهر للعيان بسبب التخلف أو غيره.

ويشارك فى التثقيف الضرورى، المؤسسات الأخرى المعنية مثل المؤسسات الثقافية العامة والمؤسسات الإعلامية التى للأسف الشديد تعلم الشعب صراع الديكة بدلاً من التنافس الصحيح، وتركز على السياسة بدلاً من السياسات والاستراتيجيات واكتشاف المواهب اللازمة لبناء المستقبل، هذا بالنسبة للجهل.

أما بالنسبة للفقر الذى نحن فيه فيرجع إلى أسباب عديدة ليس منها أبداً قلة الموارد أو الإمكانات أو النعم فى مصر، ولكن مرجعه إلى الجهل الذى لا يعين فى استخراج تلك الموارد والإمكانات الهائلة، ومرجعه أيضاً إلى سوء الاستخدام أو استخدام الرجل فى غير موضعه، والوقوع فى شرك الحروب الفاشلة التى لم نستعد لها جيداً قبل الدخول فيها، ويرجع أيضاً إلى استيراد أسلحة لم نحسن استخدامها ولا تطويرها، فسبقتنا دول كنا نسبقها، وهبطت العملة بعد الثورة فى بلادنا ولم يعد لها قيمتها التى كانت حتى أيام الملك المخلوع وأيام الإقطاع وأيام الاحتلال البريطانى لمصر.

حررنا بلادنا من ظلم الملوك والرؤساء من الإقطاع القديم ومن الاحتلال البريطانى ومن مبارك وأركان حكمه فقط، ولكننا سمحنا لظلم جديد وإقطاع جديد وهيمنة أمريكية أسوأ وأشد قسوة وقهراً من الاحتلال البريطانى، هذا بالنسبة للفقر، أما بالنسبة للمرض فأعتقد أن كل من له مريض فاضطر لزيارة طبيب أو مستشفى يدرك معنى المرض البدنى والنفسى والسلوكى والأخلاقى الذى فى مصر.. القصص كثيرة وفى كل بيت منها ما يكفى للحديث طويلاً.

بحثنا لمريضة فى المنوفية والغربية عن أشعة بالرنين المغناطيسى الذى يتحمل وزناً أكبر من 120 كيلو جراماً فلم نجد، والمريضة تشكو من آلام فى الظهر نتيجة تآكل بعض الفقرات، فاضطر الأهل إلى استئجار سيارة إسعاف من شبين الكوم إلى القاهرة لعمل تلك الأشعة مرتين، لأن المرة الأولى لم تكن كافية أو واضحة وكل أشعة يدفع أهل المريضة حوالى ألف جنيه، ثم جاءوا بعربة إسعاف لتنقل المريضة إلى مستشفى شبين الكوم مرة أخرى لمتابعة العلاج.. خدمات طبية قليلة ورديئة ونظام طبى ضعيف، وتكاليف العلاج باهظة لأن معظم المستشفيات الحكومية تطلب الأدوية والأدوات اللازمة من خارج المستشفى ويدفع تكاليفها أهل المرضى، أغنياء كانوا أو فقراء، وبعض الأطباء يكون فى حرج من ذلك، ولذلك تكثر المعارك فى المستشفيات أو يموت المريض فى انتظار الدواء.. هذا بعيداً عن السياسة حتى لا يغضب من يغضب من الحديث فى السياسة، والله الموفق