رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

درس جديد حول أكتوبر!


أرى أن الأغلب أن الدكتور أشرف مروان كلف بالعمل كعميل مزدوج، وحددت له المعلومات التى ينقلها وتوقيت نقلها، وكيفيته، وأن خطة الخداع الاستراتيجى اشتملت على ما يقنع العدو بصحة معلوماته، أو يساعد على إقناعه بصحة معلوماته، وأنه كان من الصعب على أشرف مروان أن يفعل ما فعله دون اتفاق مسبق.

يقترب يوم 6 أكتوبر، وتبدأ كتابات حول الحرب، وترفع السرية عن بعض ما عرف عنها، وتكون الفرصة مواتية لاستعادة العبر والدروس التى استخلصناها منها، والاستفادة من دروس جديدة إذا توفرت، وهى النتيجة الأفضل من استعادة الذكريات والتغنى بما فات، وهذا العام كشفت إسرائيل عن معلومات جديدة عن الحرب، ونشرتها صحيفة «يديعوت أحرونوت»، وهى كما يبدو منقولة عما تسربه شبكة «ويكيبيديا»، وقد اشتملت بشكل خاص على أجزاء أو مقاطع من تحقيقات لجنة «أجرانات» التى شكلت فى أعقاب الحرب، ومن الغريب أن أغلب النقاط التى كشف عنها مؤخرا تركزت على المعلومات التى توصلوا إليها عن طريق شخص مسمى بـ«الملاك» وهو ما يعتقدون أنه كان الدكتور أشرف مروان، حيث إنه طلب أن ينتقل إليه رئيس المخابرات العسكرية ليقابله فى لندن قبل بدء الحرب، وهو ما كان يرى بعض المحققين، وعلى رأسهم إيجال يادين -رئيس أركان حرب الجيش الإسرائيلى السابق- أنه كان يجب أن يعرض على صاحب القرار كمعلومات خام، وليس الاستنتاج، على صاحب القرار، وهو جولدا مائير- رئيسة الوزراء حينئذ-، وأنه كان من الضرورى أن يستجيب لطلبه بالسفر إلى لندن فورا، وجاء أنه مما خفف من وقع هذا الطلب والمعلومة أن «الملاك» كان قد أنذرهم فى مايو 1973 بأن مصر تستعد للحرب، وأن هذا كلفهم الكثير ولم تبدأ الحرب، لذلك لم يكونوا على استعداد لتحمل خسائر جديدة. كذلك فإن مما كشف عنه، وكنت قد سبق أن سمعته من وزير دفاع الولايات المتحدة فى الحرب فى ندوة عن حرب أكتوبر بمناسبة مرور خمسة وعشرين عاماعلى الحرب، وأظنه كان جيمس شلزنجر، أن المخابرات الأمريكية كانت قد حذرت إسرائيل من مظاهر الاستعداد المصرى للحرب، وأن إسرائيل قد أشارت إلى أنها مناورات ليس إلا، وأن المخابرات الأمريكية قد غيرت من تقديراتها واستنتاجاتها بناء عليها، بدلا من أن تعدل إسرائيل من تقديراتها، وأن المخابرات الإسرائيلية قد اعتمدت فى تقديراتها على أنها تصورت أن تصرفات القوات المصرية التى اكتشفتها كان مقصودا منها أن توحى لإسرائيل بحرب ليست فى الطريق.

توحى هذه المعلومات بأن إسرائيل كانت على معرفة بكثير مما كان يجرى فى مصر سواء من الناحية العسكرية أو غيرها، وأن هذه المعلومات اعتمدت على مصادر كثيرة، إلا أن تقدير أهمية هذه المصادر والاعتماد عليها مختلف وغالبا غير مبرر، وأن الاعتماد على شخص ما مهما كانت أهميته خطأ كبير، فطبيعة عمل من يسمونه بالملاك لا توفر له الحصول على معلومات أكيدة إلا إذا كانت القيادة المصرية قاصدة ذلك، مما كان لا بد أن يثير الشك لدى القيادة الإسرائيلية، وأنه فيما يختص بشئون الدفاع، فإن كل المعلومات يجب أن تؤخذ بمنتهى الجدية، فالحقيقة أنه جرى إعداد للهجوم فى شهر مايو 1973، حيث بدأت عملية إعادة التجميع للهجوم، وهى عملية تجعل أوضاع القوات حرجة بعد تنفيذها مما يستدعى بدء الهجوم بعدها، ولكن ذلك لم يحدث، حيث أوقفت قبل إتمامها، وهو ما وضع القوات فى وضع حرج. وكان الطبيعى أن تستعد إسرائيل لصد الهجوم، ولكن كان المفروض أيضا، بعد أن اكتشفت توقف الهجوم أن تبادر هى باستغلال أوضاع القوات الحرجة، وهو ما لم يحدث. وحينما بدأت العملية مرة أخرى فى نهاية سبتمبر أوائل أكتوبر كان على إسرائيل أن تستعد وبغض النظر عن معلومات “الملاك” حيث لا شك أنه حدثت أخطاء من الجانب المصرى أثناء التنفيذ كانت كفيلة بكشف النوايا، ولكن إسرائيل لم ترد أن تتحمل تكاليف التعبئة، فتحملت تكاليف الحرب. والحقيقة أن على القوات أن تثق فيما تراه بأعينها ووسائلها، أكثر مما تعتمد على الأجهزة والوكلاء والعملاء، ولو أن القادة الميدانيين المصريين اعتمدوا فقط على تقارير المخابرات التى كانت تصلهم لكانت النتيجة مختلفة بدرجة كبيرة، وهذا لا يعنى تجاهل معلومات الغير، أو عدم تبادل المعلومات، لكن المعلومة هى ما تؤكدها عدة مصادر، وليس مصدراً واحداً مهما كانت أهميته.

أثارت هذه المعلومات مرة أخرى قضية الدكتور «أشرف مروان» ومن المؤكد أنه قام بالدور الذى تحدثت عنه المعلومات الجديدة الإسرائيلية، وجرى السؤال عما إذا كان عميلا إسرائيليا أم عميلا مزدوجا، وأبدأ بأن أقول إننى لا أوافق على تكليف شخص يعمل سكرتيرا للرئيس كعميل للمخابرات، ولو كان عميلا مزدوجا، وهو خطأ لا أدرى كيفية مروره، فهذا يعرض أمن البلاد وأمن قواتها المسلحة لأخطار بالغة، وهى مخاطرة غير محسوبة من الجميع، الرئيس، والمخابرات وأشرف مروان.

أرى أن الأغلب أن الدكتور أشرف مروان كلف بالعمل كعميل مزدوج، وحددت له المعلومات التى ينقلها وتوقيت نقلها، وكيفيته، وأن خطة الخداع الاستراتيجى اشتملت على ما يقنع العدو بصحة معلوماته، أو يساعد على إقناعه بصحة معلوماته، وأنه كان من الصعب على أشرف مروان أن يفعل ما فعله دون اتفاق مسبق، بل وبتكليف من المخابرات المصرية، فقد كان من المستحيل إخفاء هذه التحركات، والاتصالات، بل كان من المستحيل أن يعرف بتحركات شهر مايو دون أن يقصد توصيلها إليه، كذلك كان من المستحيل أن يعمل عميلا لإسرائيل، ويعين على رأس الهيئة العربية للتصنيع بعد الحرب، وأن يظل كذلك حرا طليقا حتى وفاته، فالأغلب أنه كلف بتلك المهمة الخطرة والتى كان يجب تجنيبه إياها.

هناك أيضا السؤال عن تبليغ المعلومات إلى صاحب القرار فى صورتها الخام، أم الاكتفاء بتبليغ التقديرات والاستنتاجات، وهنا لا بد أن نقدر حجم المعلومات الخام التى تتوافر لجهاز المخابرات فى أى دولة وخاصة فى عصر الانفجار المعلوماتى، حيث تتوافر كمية كبيرة من المعلومات مختلفة المصادر، والحقيقة أنها تسمى أخبارا لحين تأكيدها من عدة مصادر، فالمؤكد أنه يستحيل عمليا عرض كل الأخبار أو المعلومات الخام على صاحب القرار، وهنا يصبح الحل هو نقل التقديرات والاستنتاجات، بدلا من الأخبار والمعلومات الخام، لكن يبقى أنه يمكن عرض خبر خاص أو معلومة خام يرى جهاز المخابرات أهميته وأنه مثير للشكوك، وقد يحتمل خطورة، وهنا سيظل الأمر لتقدير رجل المخابرات لأهمية الخبر وخطورته، وهو أمر متروك له، ولا يمكن محاسبته عليها، لكن يمكن مكافأته فى حال ما ثبت صدق حدسه.

هل كان يمكن لجولدا مائير أن تغير مجرى الحرب لو أنها استمعت إلى الخبر، لا أظن، فإذا كانت القيادات الميدانية الإسرائيلية لم تصدق عينيها، وهى ترى الحشود المصرية أمامها، فلا أظن أن قرار جولدا مائير كان سيغير كثيرا من تصرفاتها، ثم إن إسرائيل كانت تعتمد على التحصينات والدروع فى استراتيجيتها، وهى استراتيجية سبق فشلها وبالرغم من ذلك تبنتها إسرائيل، وتغيير الاستراتيجية يحتاج إلى زمن طويل لم يتوافر لها.

■ خبير استراتيجى