رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عدالة عوراء

أبسط ما يمكن أن يوصف به القرار الصادر مؤخرًا عن «المحكمة الجنائية الدولية» أنه قرار يعبّر عن نوع من «العدالة» يصح وصفها بـ«العدالة العوراء»، ترى بعين واحدة، والعين الثانية عاجزة عن الرؤية، أو ترى «طشاش»، حسب التعبير الشعبى السائد، بفعل فاعل طبعًا، لسوء الحظ.

فالقرار، وإن اعترف بجانب من حقوق شعب فلسطين، تجاهل حقوقًا ثابتة أخرى، وهو، وإن حاكم العدو على جانب من أفعاله الشائنة، تغاضى عن جوانب عديدة أخرى لا تقل شناعة أو إجرامًا، وهو، وإن أدان بعضًا من «أنبياء الدم» الصهاينة، نظر بعين «الطشاش» إلى طابور طويل من القتلة الملوثة أيديهم بالدم فلم يرهم.. وهلّم جرًا.

والأخطر أنه، وهو ينطق باسم العدالة السامية، ساوى بين القاتل والمقتول، أو بين المجرم والضحية، بل مال لصالح القاتل المجرم على حساب الضحية البريئة، وذلك حين اتهم «مقابل ثلاثة من القادة الفلسطينيين»، نفرين فقط من مجرمى الكيان الصهيونى اللقيط، هما «بنيامين نتنياهو»، رئيس الوزراء، ووزير الدفاع «يوآف جالانت»، رغم مهرجان الموت والقتل، والجوع، والتخريب المستمر أكثر من ٢٢٥ يومًا، الذى شارك فيه قادة عسكريون ومسئولون سياسيون متطرفون، فى مقدمتهم رئيس الأركان الإسرائيلى «هرتسى هليفى»، والوزيران «إيتمار بن غفير» و«بتسلئيل سموتريتش»، على حساب غزة وناسها الأبرياء، الذى خلّف، حتى الآن، ما لا يوصف من دمار شامل يصعب وصفه، وأدى إلى مقتل وإصابة أكثر من مائة ألف طفل وامرأة ورجل برىء، لا ذنب لهم جميعًا إلا أنهم اعترضوا طريق شهوة القتل والانتقام عند أحفاد ضحايا «الهولوكست» الشهير.

ومرد كل هذه النقائص هو تجاهل أساطين «المحكمة الجنائية الدولية»، وهم من هم: تاريخًا وعلمًا وفهمًا وخبرة، ولأسباب لا تخفى على لبيب، البُعد التاريخى للقضية، ونظروا بالعين العوراء لجوهر الصراع فالتبست عليهم الرؤية ولم يدركوا «لب المشكلة»، وفات عليهم، أو بالأصح فُوِّت عليهم، أنه لا يجوز، فى مثل هذه القضية الواضحة وضوح الشمس، إنكار حق الفلسطينيين الطبيعى، والمشروع، الذى لا ينكره إلا جاهل أو جاحد، فى الأرض المتنازع عليها، بحكم الواقع والجغرافيا، وعلوم الفكر والسياسة والحضارة والتاريخ، وقبل كل هذا بحكم القواعد الإنسانية البديهية، التى تُجمع كلها على الحق الفلسطينى فى أرضه التاريخية؛ «من النهر إلى البحر»؛ شاء من شاء، وأبى مَن أبى.

وجوهر القضية التى شاءت المحكمة أن تتعامى عنه هو أن الكيان الصهيونى، ليس سوى كيان ملفق، مصطنع، شكَّلته أهواء ومصالح الدول الاستعمارية الكبرى، وفى مقدمتها الاستعماران البريطانى والفرنسى، عبر مؤتمر «بازل» الصهيونى «١٨٩٧»، ووثيقة مؤتمر «كامبل بنرمان»، «١٩٠٥- ١٩٠٧»، الذى شارك فيه ممثلون للدول الاستعمارية الكبرى آنذاك: بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، إيطاليا، واتفاقية «سايكس بيكو» الفرنسية- البريطانية «١٩١٦»، و«وعد بلفور» «١٩١٧»، وغيرها من الاتفاقات وصكوك التآمر، التى استهدفت وراثة إمبراطورية «الرجل العثمانى المريض» وقت احتضاره، وإعادة رسم خرائط المنطقة طبقًا لتوازن القوى واعتبارات النفوذ والمصالح بين الدول الاستعمارية الكبرى آنذاك، وهو نهج مستمر من ذلك الوقت ولم ينقطع حتى اليوم.

فلو لم تنظر المحكمة، بالعين العوراء، لهذا التاريخ من الغُبن والظلم والإظلام الذى حاق بشعوب المنطقة، وبالذات الشعب الفلسطينى الضحية، نتيجة التقاسم الجائر لـ«كعكة» ثروات المنطقة، دون أدنى اعتبار لحقائق الواقع، تلبية لأطماع ومصالح الدول الغربية الاستعمارية الكبرى، لانطلقت، فى تحكيم ميزان العدل، من إقرار الحق المطلق؛ والمشروع للشعب الفلسطينى المحتل وطنه، فى النضال، بكل الوسائل، بما فيها الكفاح المسلح ضد سارق الأرض والتاريخ، دون تردد، وإلا فهل سأل أحد شعب الجزائر، أو الشعب الفيتنامى، وهما يكافحان الاستعمار الفرنسى، أو الأمريكى عن مشروعية نضالهما، أو تجرأ على وصفه بـ«الإرهاب» ونزع عنهما حق استعادة حقوقهما السليبة بكل ما يستطيعان التحصّل عليه من أدوات، وفى مقدمتها البندقية؟!

استقراء ملابسات الواقع تقول إن هيئة المحكمة الموقرة، وقد ألمح عن ذلك المدعى العام للمحكمة «كريم خان»، قد تعرضت لضغوطات قوية، وربما لتهديدات أقوى من أطراف لم يسمها، ولكنها، على الأرجح، من الولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى «على رأسها بريطانيا»، لإثنائها عن اتخاذ قراراتها التى أُعلنت، فى حدود هذا السقف المنخفض، وقد عبّر عن ذلك «كريم خان»، فى مقابلة أجراها مع شبكة «CNN» الأمريكية، بقوله: «تحدث معى بعض الساسة، وكانوا صريحين للغاية، وقالوا: (هذه المحكمة أُنشئت من أجل إفريقيا ومن أجل السفاحين، مثل بوتين (وحسب!)، هذا ما قاله لى أحد كبار الساسة (الأمريكيين أو الغربيين طبعًا)». 

والحق أن أحدًا من معسكر «الديمقراطية الرعناء» لم يتأخر عن تأكيد امتعاضه؛ ورفضه، بل إدانته هذه القرارات المحدودة، وإبداء العزم المعلن على تعطيل تنفيذها، فحسب «سكاى نيوز عربية»، ٢٠ مايو ٢٠٢٤، أعلن الرئيس الأمريكى «جو بايدن» عن أن: «طلب المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقال بحق قادة إسرائيليين (أمر شائن)»، وفى اليوم التالى أضاف برعونة واستخفاف: «الهجوم الذى تشنّه إسرائيل فى غزة ليس إبادة جماعية»، وذلك فى معرض دفاعه عن السلوك الصهيونى الإجرامى، مكررًا: «ما يحصل ليس إبادة جماعية.. نحن نرفض ذلك (الاتهام)»، فى إشارة إلى قضية أخرى مرفوعة أمام «محكمة العدل الدولية»، أرفع هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة فى «لاهاى»، تتهم عبرها «إسرائيل» بارتكاب إبادة جماعية فى حربها فى غزة، بينما رفض وزير الخارجية الأمريكى «أنتونى بلينكن»، بوضوح قاطع، الإقرار بجريرة الكيان الصهيونى وحكّامه، معلنًا: «الإدارة الأمريكية مستعدة للعمل مع الكونجرس للرد على خطوة المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية»، الذى طلب إصدار مذكرتى اعتقال بحق اثنين من قادة إسرائيل، وسط دعوات من الجمهوريين لفرض عقوبات أمريكية على مسئولى المحكمة.

ورغم أى «عوار» أو نقائص أو ملاحظات على قرار «المحكمة الجنائية الدولية»، فالمؤكد أنه جاء بمثابة طلقة فى الصميم، ستتداعى تدريجيًا تأثيراتها السلبية على الكيان الصهيونى، وستظل طويلًا تنزف دمًا إن لم تُصب فى مقتل، وربما كان الإعلام العبرى «تايمز أوف إسرائيل»، ٢١ مايو ٢٠٢٤، هو الأكثر حساسية وشعورًا بـ«المصيبة» التى وقعت، وبأن اتهامات «الجنائية الدولية» ضد «نتنياهو» و«جالانت»: «سيكون لها وقع الكارثة على مكانة «إسرائيل فى العالم»، واعتبرت تصريح «كريم خان» أنه قدّم مذكرة لاستصدار أمر اعتقال لهما بمثابة «القنبلة الأكثر إثارة للصدمة فى التاريخ الإسرائيلى».

وعلى الضفة المقابلة: أعلنت «النرويج»، على لسان وزير خارجيتها «إسبن بارث إيدى»، عن أنه «فى حال إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، فإن (أوسلو) ملتزمة بإلقاء القبض عليه إذا زارها»، واعترفت، مع إسبانيا وأيرلندا بدولة فلسطين المقبلة.

يا الله: النصر لفلسطين رغم ماراثون الدمار والعذاب، أما الكيان العنصرى النازى.. فإلى مزبلة التاريخ».