رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيدة أخرى من مصر.. نموذج مشرف للمرأة

تطالعنا وكالات الأنباء كل صباح بتقارير مصورة لأطفال- أو على وجه الدقة أبطال- لم يهنوا ولم يستسلموا أمام آلة الحرب الإجرامية التي يشنها عليهم المعتدي الغاشم دون وازع من ضمير أو إنسانية. أطفال تبكي عيونهم وتحزن قلوبهم على فقدان ذويهم ورفاق طفولتهم، لكنهم لا يعبأون بجيشه الجرار، وهم رغم الجوع ورغم القهر ورغم التشرد لا يستسلمون ولا تتغير عقيدتهم تجاه العدو. ولا أجد المساحة كافية للوقوف عند نماذج للتأكيد على كلامي فالنماذج كثيرة والصور واضحة، كما أنني لست في حاجة لإثبات ما أقول إذ يرى العالم من أبطالنا في غزة وفي الضفة أيضا كل يوم قصة جديدة لبطل جديد.

ولم تقتصر الأزمة الحالية في فلسطين المحتل على الكشف عن أبطال من أهل فلسطين وحدها، بل إن غباء المحتل واستمراره في رعونته منحنا- نحن العرب- فرصة ذهبية لنكتشف كل يوم بطلا جديدا في مجال مختلف يزيدنا إيمانا بعدالة قضيتنا وثقة في النصر وثباتا على المبدأ. وتعددت وجوه الأبطال، كما تباينت أعمارهم وتنوعت مهنهم.

وصدق من قال: من رحم المعاناة يولد الأمل، فوسط معاناة الأشقاء في غزة شاهدنا نماذج متميزة لأطفال وشيوخ، لنساء ورجال يضربون أروع الأمثلة على الصمود والتحدي. أجل "الصمود والتحدي" تلك العبارة التي لم نعد نسمعها منذ عقود بعد أن ارتبطت في مخيلتنا ولسنوات طويلة بنماذج بارزة قاومت المحتل وتصدت للمغتصب وصانت التراب الوطني خلال سنوات الصراع الممتد مع العدو الغاصب.

من بين هؤلاء الأبطال الذين صدرتهم لنا الأزمة الحالية كانت سيدة من مصر. إذ كشفت لنا جلسة محكمة العدل الدولية عن سيدة مصرية جذبت انتباه العالم وصارت موضع اهتمامه خلال نصف الساعة كانت هي كل المدة التي احتاجتها لتعرض في ثبات إنساني وكفاءة مهنية وطلاقة لغوية موقف مصر من القضية الفلسطينية، ولتستعرض التاريخ الأسود لدولة الكيان في ملف حقوق الإنسان.

إنها الدكتورة ياسمين موسى المستشار القانوني بالخارجية المصرية التي عرضت برصانة وسلاسة وتمكُن لتلك الآثار القانونية المترتبة على الممارسات الإسرائيلية، فخرجت المرافعة التي قدمتها واضحة جلية، بحيث لخصت في نصف ساعة فقط كل ما ارتكبته إسرائيل من حماقات وجرائم على مدار 75 عاما ضد الأبرياء في فلسطين. تمييز وتشريد وفصل عنصري وعنف ممنهج ومعاناة.. بهذه الألفاظ الدقيقة والموجزة لخصت دكتورة ياسمين مأساة الشعب الفلسطيني جراء الاحتلال الصهيوني، وهو ما يسميه أهل البلاغة براعة الاستهلال.

  وبعد المقدمة دخلت إلى التفاصيل، لتستعرض أربع نقاط بتركيز شديد من شأنها أن تدحض ما قد يدفع به الفريق القانوني لدولة الكيان: ولاية واختصاص محكمة العدل في تناول القضية، الانتهاكات المستمرة لحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، دحض ما يدفع به العدو من مبدأ الدفاع عن النفس والضرورة الأمنية، وأخيرا تقديم ملخص للآثار القانونية الناشئة عن الممارسات الإسرائيلية من فرض سياسة الحصار والتجويع ومنع وصول المساعدات للمشردين جراء العملية العسكرية في غزة، والتمييز العنصري وعملية فصل وإخضاع مؤسسي يتم فرضه على الفلسطينيين مع ممارسة الاعتقال الإداري. 

ثم جاء الطلب المصري في النهاية واضحا ومؤكدا لموقف مصر الثابت من القضية الفلسطينية ليخرس الألسنة التي تقوّلت والافتراءات التي أطلقت بشأن موقف استراتيجي عقدي ضحينا بسبب الثبات عليه بأرواح كثيرة وبمليارات لا تحصى من الدولارات وبرخاء كنا نستحقه لعقود طويلة، لكنه الثبات على المبدأ والإيمان بالقضية، ثم كان الطلب المصري من هيئة المحكمة وهو ضرورة وقف الانتهاكات الإسرائيلية الممنهجة لأحكام القانون الدولي، وعدم الاعتراف ورفض أي آثار تنشأ عن الممارسات الإسرائيلية غير القانونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

هذه هي مصر تكشف اليوم عن جيل جديد من المسئولين جيل مؤمن بعدالة قضيته، جيل مهيأ للدفاع عن الثوابت ويمتلك من الأدوات ما يقوده حتما إلى النجاح في تحقيق هدفه مهما طال الزمن، جيل يعطي الثقة للأكفاء رجالا كانوا أم نساء، فالكل في عين الوطن، سواء والفاصل الوحيد بين الجميع هو الكفاءة والقدرة على تحقيق الهدف. والعنصر الأهم هو أن مصر تصون كوادرها وتستخدمهم في الوقت المناسب وتضع كل عنصر من عناصر قوتها في مكانه المناسب وفي الوقت المناسب.

تحية لصانع القرار وصاحب الاختيار ولكل من صنع لنا أيقونة جديدة اسمها ياسمين موسى لتكون سيدة أخرى من مصر تسهم بتمكنها من لغتها، وبشجاعة وثقة في نفسها، وبكفاءة في استخدام كل أدواتها في الدفاع عن سمعة بلادها والحفاظ على حقوقها وإبراز صورتها العصرية كدولة تثق في كل مواطنيها وتمنحهم الفرص المتكافئة. وكل الشكر للفريق المعاون لياسمين موسى الذي عمل في صمت لتخرج علينا هذه السيدة برسالة أمل وتفاؤل وثقة في المستقبل الأفضل بإذن الله.