رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سمير مرقص: «30 يونيو» نقلة فى تاريخ مصر الحديث.. وقضت على «التصنيف الدينى»

سمير مرقص
سمير مرقص

- المفكر السياسى قال إن الاحتلال العثمانى لم يكن «فتحًا أو خلافة» بل ظلمًا لكل المصريين مسلمين ومسيحيين٢

- كتابة تاريخ مصر «أمن قومى».. ويجب أن تكون لدينا دائمًا ذاكرة وطنية واحدة

- نحتاج إلى تصنيف تاريخ مصر بناءً على حركة المصريين وليس بروايات استعمارية أو دينية

- البابا شنودة من أوائل مَن تحدثوا مبكرًا عن الصراع العربى الصهيونى عام 1966

وصف الدكتور سمير مرقص، المفكر السياسى، ثورة «٣٠ يونيو»، بأنها نقلة فى تاريخ مصر الحديث، مشيرًا إلى نجاحها فى القضاء على «التصنيف الدينى» للمواطنين، فلأول مرة خلالها، طالب المواطنون بحقوقهم كمواطنين، وليس على أساس دينى.

واعتبر «مرقص»، خلال الجزء الثانى من حواره لبرنامج «الشاهد»، الذى يقدمه الإعلامى الدكتور محمد الباز، عبر فضائية «إكسترا نيوز»- أن من يكتب المناهج الدراسية المتعلقة بالتاريخ هو «أهم شخص»، لأنه يوفر أساس المادة الخام لتكوين المواطن بشكل سليم.

كما شدد على ضرورة إعادة كتابة تاريخ مصر بمنظور شعبى، دون الخضوع لوجهة نظر الاستعمار أو الروايات الدينية، منبهًا إلى أن المنهج الذى يُكتب به هذا التاريخ بمثابة «أمن قومى».

■ المنهج الذى يكُتب به تاريخ مصر يتعلق بأمنها القومى.. كيف ترى هذه القضية من وجهة نظرك؟

- الأمن القومى يحتاج إلى أن يكون جميع المصريين فى نفس مستوى الموجة من حيث استقبالهم التاريخ، ويمكن الاختلاف مع التاريخ كما يشاء أى أحد، لكن يجب دائمًا أن تكون هناك ذاكرة وطنية واحدة، وإلا سيخلق كل تيار تاريخه الخاص به، ويقصى تاريخ الآخرين.

على سبيل المثال، فى فرنسا، نرى العديد من النقاد للثورة الفرنسية، لكن لا أحد يختلف فى فرنسا على قيمة الثورة كمحطة أساسية فى التاريخ الإنسانى، فإذ انطلقت من هذه النقطة، ستعمل على توحيد الحد الأدنى للذاكرة الوطنية لدى الأمة.

حتى وقتنا الحالى هناك أشخاص يختلفون على ثورة ١٩، وما قدمه سعد زغلول فى تلك الحقبة، كما أن هناك أشخاصًا ما زالوا يعيشون ويستدعون الفترة الملكية، لذا القضية من وجهة نظرى هى كيفية إعادة النظر إلى التاريخ، والاعتبار بالمحطات الكبيرة به، وبالتالى فإن المنهج الذى يُكتب به التاريخ هو مسألة أمن قومى.

■ كيف تأثرت كتابة التاريخ المصرى فى فترة الاحتلال الإنجليزى؟

- حين تقرأ الكتب العالمية التى صدرت فى آخر ٢٠ عامًا، وتحديدًا حول تقييم العلاقات الدولية، تجد أنهم يعتبرون تأميم قناة السويس حدثًا مفصليًا، ليس فى مصر فقط، بل بالنسبة للتحولات الكونية كلها، وانتقال قيادة العالم من الاستعمار القديم إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

كانت هناك محاولات مبكرة لكتابة تاريخ وطنى، بدأت مع المقريزى ثم الجبرتى، وبعض الحالات الخاصة فى كتابة التاريخ كانت ذروتها فى عصر الطهطاوى، الذى كان جزءًا من مشروعه الثقافى أن يقرأ تاريخ مصر، حيث قال فى كتاباته: «لا يمكن النهوض إلا بالعودة إلى قراءة التاريخ، ومعرفة آليات وصولنا إلى النقطة الحالية». حين جاء الاحتلال البريطانى تم تأسيس كيفية التعاطى مع مناهج التاريخ فى بلادنا، وللأسف ظلت أقسام التاريخ متأثرة بالتصنيف «الاستشراقى»، وهذا ما اكتشفته حين بدأت فى العمل بشكل شخصى عن تاريخ الأقباط، ووجدت حينها أن مدرسة التاريخ المصرية ظلت متأثرة فى فترة معينة، حين تقرأ تاريخ الأقباط، بأنهم «أهل الذمة»، وبعد ١٩٥٢ بدأ بعض المؤرخين الرواد فى تفكيك هذه الفكرة، عبر محاولة توظيف مصطلح «أهل الذمة» فى إطار السياق الاجتماعى الوطنى.

كان من هؤلاء الدكتور الراحل قاسم عبده قاسم، الذى حاول الخروج عن التقاليد المنهجية التى وضعها الإنجليز، حين بدأ فى إعداد رسالته التى تحمل عنوان: «الأقباط فى مصر فى العصر العثمانى».

■ لماذا لم تعط الكتابات الغربية الاستشراقية اهتمامًا لرفاعة الطهطاوى؟

- الكتابات الأجنبية لا تعطى أى اعتبار لرفاعة الطهطاوى، فالمستشرقون الغربيون لا يريدون أن يبرزوا أهميته أمام العالم، لأن مشروع الحداثة كله معلق برقبة «الطهطاوى»، وهناك كاتب أعد كتابًا بعنوان: «مصر تبحث عن نفسها»، هو من وضع بذرة أن الكتابات الغربية الاستشراقية لم تذكر «الطهطاوى» إطلاقًا.

الدكتور الراحل وليم سليمان قلادة كتب دراسة مبكرة اسمها «الطهطاوى مستبعدًا» من خلال الأدبيات الحديثة، ولولا بعض الكتابات للمعاصرين من الأجيال الحالية لإعادة الاعتبار لرفاعة الطهطاوى، كان سيندثر تاريخه وفكره بشكل كبير.

ذلك الأمر يدل على أن التاريخ ظل متأثرًا بطريقة التصنيف والمنهجية والتقسيم، فعلى سبيل المثال حين ننظر إلى تقسيم تاريخ مصر منذ عصر الأسرات والبطالمة والعرب والرومان وغيرهم، نجد أن ذلك تم على أساس أنظمة الحكم، فعصر البطالمة كان نظام حكم وافد، لذا من الضرورى عدم تصنيف تاريخ مصر طبقًا لفترات الاحتلال.

■ كيف يمكن إعادة كتابة التاريخ المصرى بمنظور شعبى وليس استعماريًا؟

- من الضرورى تصنيف التاريخ المصرى بناءً على حركة المصريين، وليس بناءً على فترات الاحتلال، فالاحتلال العثمانى لم يكن فتحًا أو «خلافة»، بل كان ظلمًا واستغلالًا لكل المصريين، مسلمين ومسيحيين.

تمكنت من التخلص من المنهجية الاستشراقية فى كتابة التاريخ المصرى، لكنى أواجه تحديًا جديدًا من بعض الرؤى الدينية، التى تحاول إعادة تفسير التاريخ بمنظور ثابت ومتحيز، مثلما حدث فى قضية «ثورة البشامرة»، التى كانت حركة اجتماعية ضد ظلم الفلاحين، وليس «حركة دينية» ضد «المأمون».

أسعى فى الفترة الحالية لإبراز دور المصريين فى صناعة تاريخهم وثقافتهم وهويتهم، وليس الاستسلام للروايات الاستعمارية أو الدينية، التى تحاول تشويهها أو تجاهلها.

■ كيف نتناول أداءات الشخصيات التاريخية المصرية دون التجريح فى سلوكهم الشخصى؟ 

- يجب تقييم الشخص من حيث أدائه الشخصى وليس السلوكى، أن يكون الأمر متعلقًا بممارساته السياسية وتداعياتها، ونتائجها على الواقع الاجتماعى والسياسى والثقافى وغيرها، وأن يكون سلوكه الشخصى يخصه، ولا يجب التدخل فيه إطلاقًا.

يبدو لى أن الحالة الثقافية العامة تجعلنا نبعد كثيرًا عن مضمون الأداءات إلى اللغة الفضائحية، وذلك أمر لا يهمنى على الإطلاق، فإخضاع الشخصيات التاريخية للنقد والتحليل وارد بالتأكيد، لكن البعض يعتقد أن ذلك يعد تشويهًا لهذه الشخصيات، فى ظل أنها رموز لا يجب المساس بها.

هذا الأمر يعتبر مشكلة كبيرة، لأنه يعوق القراءة التاريخية والتقييم التاريخى والنقد، وكل ذلك مطلوب بشكل كبير فى وقتنا الحالى، لكن بشرط وضع أطر وضوابط معينة لكيفية تحليل هذا النقد التاريخى، دون أى تجريح لسلوك الشخصيات التاريخية.

■ ما الأمور التى يجب توافرها فى كتابة المناهج الدراسية المتعلقة بالتاريخ؟

- يجب الاهتمام بكيفية كتابة المناهج الدراسية المتعلقة بالتاريخ المصرى لأولادنا فى المدارس، لأن من يكتب هذا المنهج هو أهم شخص فى تقديرى، وهو الذى يوفر المادة الخام الأساسية لتكوين المواطن المصرى بشكل صحيح، ويحتاج إلى نوع من التدريب الخاص والثقافة الموسعة حول كتابة منهج التاريخ.

فى هذا الأمر تحديدًا، أرشح دائمًا كتاب «تكوين مصر» للكاتب محمد شفيق غربال، الذى وضع أسس مدخل إلى قراءة تاريخ مصر، ومن المفترض أن يكون موجودًا داخل كل بيت مصرى، وليس المناهج الدراسية فقط، وهو مجموعة محاضرات فى الإذاعة، وتم تجميعها فى كتاب، ونُشر نحو ١٠ مرات فى قصور الثقافة المختلفة.

هذا الكتاب مهم للغاية، ويجعلك تعرف قيمة التجربة المصرية والتاريخ المصرى منذ القدم، وكل التفاصيل المتعلقة بذلك، فى عناوين مكثفة ومركزة للغاية، وهذا ما يدل على عبقرية الكاتب، وأظن أنه لم يكتب أى شىء بهذا التركيز واللغة الحدثية المعاصرة والكثافة، على مدار تاريخ مصر، وهو يظهر الاستمرارية الحضارية المصرية، وطبيعة المجتمع المصرى بشكل موسع للغاية.

■ وماذا عن كتابة تاريخ الكنيسة؟

- هناك مستوى للقراءة التاريخية بالنسبة للكنيسة، وهو المستوى التاريخى العابر للزمن، فالأقباط مصريون تحولوا إلى المسيحية، كما يوجد مصريون تحولوا إلى الإسلام، لذا الأقباط ليسوا جالية مثلما يقول البعض.

الكنيسة المصرية تأسست فى القرن الأول الميلادى، فى لحظة تحول المصريين إلى المسيحية، لذا التعامل مع المسيحية عابر للزمان، والكنيسة المصرية كيان تاريخى، هذا الكيان لديه نوع من التقاليد والثوابت عبر العصور، فهى تحافظ على بعض التقاليد والمبادئ عبر التاريخ.

كارلوس الرابع فى الكنيسة المسيحية يُطلق عليه «أبوالإصلاح»، بعدما استطاع أن يواكب الإصلاح المصرى بشكل عام فى هذه الفترة، لذا تم تأسيس مدارس للفتيات والكثير من المؤسسات الخدمية فى عصره، كما كان هناك وجود للأقباط فى الحياة السياسية المصرية، إذن نحن أمام سياق واضح، وهو أن الكنيسة طرف فى المعادلة الاجتماعية.

وضعت دراسة حول «التجديد اللاهوتى وعلاقته بالواقع الاجتماعى المصرى»، واكتشفت أن التجديد فى الفقه الإسلامى واكب التجديد المسيحى، ووجدت أن فترة المد الناصرى الحديث كانت فى نفس التجديدات اللاهوتية بالجانب الاجتماعى.

من أهم الأحاديث المبكرة عن الصراع العربى- الصهيونى، كان من نصيب البابا شنودة، فى عام ١٩٦٦، لذا كان هناك نوع من المواكبة بين السياق ورد الفعل المؤسسى، وانعكس هذا التفكير فى فترة السبعينيات، لذا فى هذه الفترة حدث مد دينى معادٍ للدولة الوطنية والكنيسة.

■ عندما أُطلقت دعوة تجديد الخطاب الدينى انصب الخطاب على الدين الإسلامى أو خطاب الجماعات المتطرفة.. هل الخطاب الدينى المسيحى يحتاج إلى تجديد؟

- نعم، الخطاب الدينى المسيحى يحتاج إلى التجديد، السياق يطرح الكثير من الأسئلة، لذا يجب الإجابة عن تلك الأسئلة، وإذا لم تتم الإجابة عن الأسئلة ستكون هناك مشكلة كبيرة مع الأجيال الحالية والمقبلة.

من ملاحظاتى العامة، أستطيع القول إنه أصبح هناك تنوع وتجديد داخل الكنيسة، وأنشطتها ومعالجتها للقضايا، أى هناك شعور بأنه لا بد من التجديد خلال الفترة المقبلة، والبابا تواضروس يحاول أن تكون له تجربته الفريدة، لكنه غير مخاصم للتجارب الذى سبقته على الإطلاق، أى أنه امتداد للتجارب السابقة، مع حرصه على إضفاء سمات التجديد.

الخطاب الدينى ليس مرنًا على الإطلاق، يمكن القول إن هناك ثوابت فى الدين، لكن هناك تجليات يجب أن تكون متوافقة مع المتغيرات المختلفة، ومع التكوين الثقافى والوجدانى للأجيال الجديدة. 

الجدير بالذكر أن عنف الخطاب الدينى يخلق نوعًا من الغموض والعقلية الأحادية، لذا يجب الانتباه لشباب الألفية الثالثة بعين الاعتبار، وأن يكون الخطاب الدينى مواكب لتلك الفئة.

هناك ٤ مظاهر يتميز بها الجيل الحالى، تتمثل فى أنه يفك ارتباطه بالمرجعيات التقليدية، ويخلق عالمًا خاصًا به، ومنفتحًا على التكنولوجيا الحديثة، ويفك ارتباطه أيضًا بالمرجعيات والمواثيق.

شباب اليوم يحصلون على المعلومات جميعها من «السوشيال ميديا» والمنصات الرقمية، وهذا عكس الأجيال السابقة التى كانت تحصل على المعلومة من الأب والأم والمحيطين، لذا التكوين الذهنى للأجيال الحديثة مختلف عن الأجيال السابقة.

الدليل على ذلك أن المصدر الرئيسى لمعلومات الشباب فى مصر عن حرب غزة هو برنامج «الدحيح»، وفى أقل من أسبوع واحد حصد هذا البرنامج ١٥ مليون مشاهدة، لذا يجب أن يكون الخطاب الدينى مواكبًا ومدركًا هذه المتغيرات.

الخطاب الدينى حتى الآن غير مواكب للعصر، والشباب أنفسهم هم من أصبحوا يمارسون ويكتشفون مظاهر التجديد الدينى سريعًا، وذلك لأنهم بحاجة إلى هذا، وليست المؤسسات، لذا يجب على مؤسسات الدولة أن تسارع فى تفعيل التجديد الدينى، من الحركة الشبابية إلى الحركة المؤسسية، لضمان الاستغناء عن المخرجات غير المنضبطة.

■ المواطن يلجأ إلى المؤسسة المعنية به وبدينه.. هل حدث تغيير ما فى هذه النقطة بحيث يتجه المواطنون للقانون بدلًا من الذهاب إلى الكنيسة أو المسجد؟

- من ثمار «حراك يناير» و«تمرد يونيو»، أن حضور المواطنين تم تفعيله بصورة كبيرة، وتم القضاء على التصنيفات الدينية للمواطنين، فالأقباط جسم اجتماعى، ولكل منهم مصالحه وأهدافه الخاصة، لذا المواطن المصرى عرف الطريق إلى المجال العام بخروجه إلى الميدان، وطالب المواطنون بحقوقهم كمواطنين وليس على أساس دينى، وخرج المصريون جميعهم فى «٣٠ يونيو» لرفض التصنيف الدينى، وبالتالى يمكن القول إن هذه الحركة كانت تعبيرًا للحفاظ على هوية الدولة الحديثة، كما أنها كانت نقلة فى تاريخ مصر الحديث.