رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جذور التوافق الوجدانى بين الأمريكان والصهاينة «2-2»

يؤكد المفكر المصرى عبدالوهاب المسيرى فى كتابه «الفردوس الأرضى» أن التفاهم الكامل بين الشعب الأمريكى والإسرائيلى يعود إلى التشابه الشديد بينهما فى التكوين والمنهج، ويظهر ذلك فى أن كلًا منهما يزعم عقلية الريادة والتفرد، وينعكس أيضًا على سلوكياتهما وعلاقاتهما بالآخر غير الأمريكى أو غير الإسرائيلى.

وإضافة إلى هذا التشابه الوجدانى، فإن التشابه أو الاتفاق العقائدى بين المذهب البروتستانتى والصهيونية يؤلف ما يُعرف «الصهيونية المسيحية» التى تربط الدين بالقومية، والتى تسخر الإيمان المسيحى بعودة السيد المسيح بقيام دولة صهيونية: أى بإعادة تجميع اليهود فى فلسطين، حتى يظهر المسيح لتحقيق مكاسب يهودية. حيث يعتقد الكثيرون فى المجتمع الأمريكى الإنجيلى، أن من واجبهم تشجيع اليهود على الانتقال من بلدانهم الأصلية إلى أرض الميعاد لحضور نهاية العالم، التى يفترض أنها نبوءة جاءت فى الكتاب المقدس، وعندما يعود يسوع لبناء مملكته على الأرض، ويأخذ المسيحيون الصالحون مكانهم إلى جانبه على تل مجيدو، الاسم الحديث لموقع هرمجدون التوراتى، ستكون نهاية العالم قد حلّت.

ويرى هؤلاء المسيحيون الصهيونيون سواء فى أمريكا أو أوروبا أن هذه النبوءة هى خطة إلهية وأن واجبهم الدينى يحتم عليهم ألا يكونوا مجرد مراقبين لهذه الخطة، بل عليهم أن يشاركوا بنشاط محاولين تقريب أوقات النهاية.

وفى ظل المتغيرات العالمية الجديدة فى أوائل القرن التاسع عشر ظهرت حركة صهيونية مسيحية قوية، عُرفت باسم «الترميم» تبنت فكرة أن المجىء الثانى للمسيح يمكن تسريعه إذا عاد شعب الله المختار «اليهود» إلى أرض الميعاد بعد ألفى عام من نفيهم المفترض. وبدأت هذه الحركة فى العمل على عودة اليهود إلى فلسطين، فالبداية لم تكن كما نظن مع وعد بلفور ١٩١٧، بل هى أقدم بكثير، ففى عام ١٨٤٠، قدم اللورد شافتسبرى مشروع «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» إلى مؤتمر الدول الأوروبية فى لندن، ودعا فيه لتبنى لندن إعادة اليهود إلى فلسطين وإقامة دولة خاصة بهم ونشر إعلانًا فى صحيفة لندن تايمز يحثّ فيه على عودة اليهود إلى فلسطين.

وفى أمريكا بدأ القس تشارلز تاز راسل، راعى إيبارشية فى ولاية بنسلفانيا، الدعوة لتأسيس وطن قومى لليهود فى فلسطين على يده منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، فعل ذلك قبل ما يقرب من ٢٠ عامًا من نشر الصحفى اليهودى الألمانى تيودور هرتزل كتابه الشهير «الدولة اليهودية» الذى يوجز قيام دولة يهودية.

ولم يهتم هرتزل العلمانى بفلسطين كمكان إقامة دولة يهودية. فقد كان هدفه أى مكان يجمع اليهود، لكن أتباعه اللاحقين، الذين يدركون جيدًا قبضة المسيحية الصهيونية فى العواصم الغربية، ركزوا انتباههم على فلسطين، أرض التوراة الموعودة، على أمل كسب حلفاء أقوياء فى أوروبا والولايات المتحدة.

وبدأ فى التوطين الصهيونى منذ بداية ثمانينيات القرن الـ١٩، وتعد «بتاح كفاه»، أول مستعمرة بريطانية لليهود، ونظم البارون اليهودى روتشيلد أول هجرة جماعية لليهود إلى فلسطين عام ١٨٨٢.

واستمرت الصهيونية المسيحية فى التأثير على الحكومة البريطانية لإصدار إعلان بلفور ١٩١٧، ومع إعلان قيام دولة إسرائيل انتقلت الرعاية من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، وتمتع الصهاينة اليهود بنفوذ متزايد فى واشنطن منذ حرب الأيام الستة عام ١٩٦٧. 

وقد أصبحت إسرائيل بالنسبة للإنجيليين الأمريكيين قضية رئيسية بشكل متزايد. وأظهر استطلاع للرأى عام ٢٠١٥ أن نحو ثلاثة أرباعهم يعتقدون أن التطورات فى إسرائيل تم التنبؤ بها فى كتاب الوحى للكتاب المقدس.. لقد وصلت هذه العملية إلى أعلى درجاتها فى عهد الرئيس دونالد ترامب. الذى صرح نائبه مايك بنس: «إن شغفى بإسرائيل ينبع من إيمانى المسيحى.. إنه حقًا أعظم امتياز فى حياتى أن أخدم كنائب للرئيس، لرئيس يهتم بعمق بحليفنا الغالى».

وعندما نقل ترامب السفارة الأمريكية إلى القدس، مستبقًا أى تسوية تفاوضية للنزاع الإسرائيلى الفلسطينى، كان ذلك بهدف إرضاء قاعدته المسيحية الصهيونية. فقد صوّت حوالى ٨٠٪ من الإنجيليين البيض لصالحه فى عام ٢٠١٦. 

وقد توافقت العقيدة المسيحية الصهيونية مع رغبة الحكومات الأمريكية والأوروبية فى السيطرة على موارد النفط فى المنطقة، وتحقيق السيطرة على منطقة الشرق الأوسط بمعابره المائية وموقعه الجغرافى، فقدمت الحكومات الغربية لإسرائيل دعمًا غير محدود، فى حين يتم اضطهاد الفلسطينيين وطردهم من أراضيهم. وزرعوا لإسرائيل صورة الجنة الأرضية الموعودة، دولة يهودية سعيدة محاطة بالعرب والمسلمين الهمجيين العازمين على تدميرها. وسهل دعم عشرات الملايين من المسيحيين فى جميع أنحاء العالم، والذين يتضح أن شغفهم بإسرائيل محصن ضد المنطق، من مهمة الحكومات التى تبيع الحروب والاستيلاء على الموارد.

فهؤلاء الصهاينة المسيحيون ينظرون إلى المنطقة من خلال منظور موحد وحصرى: كل ما يساعد فى وصول وشيك للمسيح مُرحب به. القضية الوحيدة هى كيف سيتجمع «شعب الله المختار» فى الأرض الموعودة؟. إذا وقف الفلسطينيون فى طريق إسرائيل، فإن عشرات الملايين من المسيحيين الأجانب سيكونون سعداء للغاية برؤية السكان الأصليين يطردون مرة أخرى، كما كان الحال فى عامى ١٩٤٨ و١٩٦٧.

إن معرفة هذه الخلفيات الوجدانية والعقائدية لا تبرر ما تفعله دولة الاحتلال، لكنه يجعلنا ندرك أنه لا حل للقضية الفلسطينية إلا بتغيير ميزان القوة فى المنطقة، فسواء كان الوجود اليهودى فى فلسطين يعلن عن اقتراب القيامة أم لا، فإن الطريق إلى القيامة لن يكون على حساب الشعب الفلسطينى وحقه فى أرضه وتاريخه ووجوده.