رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معركة تحرير القنطرة.. يرويها رقيب متطوع

محمود عرفات
محمود عرفات

احتلت الفرقة الخط الثانى بعد استيلائها على الخط الأول مباشرة دون أن تنتظر طويلًا. أحصينا خسائر العدو.. فتأكدنا من تدمير سبع وثلاثين دبابة وعدد كبير من العربات والمصفحات. استيلاؤنا على الحصن الجنوبى فى قطاع الفرقة أثار دهشة كل مَنْ عرفوا أنه سقط بعد عشر دقائق من عبور القناة. أنا وزملائى لم نندهش. فكيف نفشل وقد تدربنا جميعًا على ماكيتات مطابقة للنقط الحصينة التى تواجهنا. فعرفنا مكانها بالضبط، وطرق الاقتراب منها، والطرق المعدة للانسحاب، وارتفاعها وشكل أبوابها وحجمها، ومزاغل النيران ومرابض الدبابات، ومواضع هوائيات أجهزة اللاسلكى، والمسافة بينها وبين أقرب موقع لنجدتها، ثم وصفها من الداخل، وهو وصف تقريبى، ثبت فيما بعد أنه كان دقيقًا. الفضل يرجع لرجال المراقبة فى نقاط الملاحظة، حيث رسموا بدقة خريطة حقول الألغام حول الحصن، ولرجال الصاعقة الذين حددوا مداخل ومخارج الحصون أثناء عمليات العبور والإغارة عليها.

قبل المغرب بقليل زن جهاز اللاسلكى، فسمعت قائد السرية يأمرنى بمغادرة الموقع وموافاته فورًا. كنا فى هذه اللحظة نبعد حوالى كيلومتر واحد عن الحد الأمامى لقواتنا. وصلت إلى قائد السرية بعد أن غطست الشمس. أديت التحية، فأشار لأجلس بجانبه فى الحفرة. تعجبت!! فقد رأيت فى يده اليمنى رغيف عيش بلدى ملفوفًا على شكل ساندوتش وتطل منه رائحة جبن مش. وفى يده اليسرى ثمرة طماطم شهية. أجاب بسرعة عن سؤال لم أنطق به: سائقو عربات الذخيرة التى أتت من الغرب أحضروه من الأهالى. مد يده فى الجربندية وأخرج رغيفًا آخر وقطعة جبنة مش وطمطماية، وقدمها وهو يهمس: أحلى إفطار.. المغرب أذِّن.. كُل بالهنا والشفا. التهمت الرغيف بالجبن والطماطم فى ثوانٍ، وقلت وأنا أمسح فمى: ياه يا فندم.. الأكل الطازة أحلى أكل.. فاجأنى: تحب تحبس؟ مد يده وأخرج علبة طعام فارغة وملأها بالماء، ووضعها فوق قطعتى حجارة، وأشعل تحتها قرص سبرتو. انتظر حتى غلى الماء فوضع الشاى والسكر فى العلبة، ثم رفعها، واقتسم الشاى فى علبتين. أعطانى علبة وهو يسأل: إيه رأيك؟ أغمضت عينى وارتشفت الشاى كعاشق وهمست: أحلى شاى فى التاريخ؟ أشار ببساطة وهو يقول: اركن ظهرك.. أنا فى انتظار أخبار. 

ركنت ظهرى إلى جانب الحفرة وأغمضت عينى. أفقت على جندى الإشارة يهمس للضابط، الذى التفت نحوى وقال مبتهجًا: الحمد لله.. النقطة الحصينة الباقية بالقنطرة سقطت. سكت لحظة ثم أضاف: لكن قوات العدو المنسحبة من الحصون تنتشر فى المبانى والبيوت وتواصل القتال، مطلوب تمشيط القنطرة وتحريرها تمامًا من العدو. قلت بقوة: تمام يا فندم. قال: تعرف القنطرة حتة حتة.. قل لى أهم المبانى التى قد يتحصن بها العدو. قلت كأنى أُسمِّع نشيدًا: مخزن المعونة الأمريكية، وفندق الشرق، وقسم الشرطة، وكنيسة القديس سبيريدون، والمنازل المدمرة ذات الطابق الواحد. أمرنى بقوة: سلم نفسك فورًا، لتكون تحت قيادة رئيس عمليات الكتيبة، الذى سيقود عملية التمشيط والتطهير، ستنضم إلى مجموعة صاعقة متمرسة على القتال وجهًا لوجه، تذكر أنك ذاهب لتحرير القنطرة.

ياااااااه.. لا أقدر أن أصور حالتى فى تلك اللحظات.. كنت أركب المدرعة مع زملائى وهى تمضى شمالًا ببطء ودون أنوار فى اتجاه القنطرة. أمامنا عدة مركبات وخلفنا عدد آخر. نجلس فى صفين متقابلين، والضوء الخافت يلقى ظلالًا مراوغة على وجوهنا الساهمة والمتحفزة.. وسرحنا فى المعركة المنتظرة القادمة. تذكرت كلمات قائد الكتيبة «إن تحرير القنطرة شرق هو تحرير لمدينتين فى وقت واحد». 

توقفت المركبات ونزلنا فى صمت. شرح قائد العملية مهمتنا باختصار، وقسمنا إلى مجموعات قتالية صغيرة. المجموعة يقودها ضابط يحمل «جهازًا لاسلكيًا»، وتتكون من جندى مهندسين بحوزته مجس ألغام، وجندى يحمل آر بى جى «مضادًا للدروع»، وجندى قناص، وأربعة جنود للاقتحام والاشتباك، وجنديين للحماية والدعم. والجميع مسلحون بالبنادق سريعة الطلقات والقنابل اليدوية. تحددت إشارات التنفيذ وتنسيق المهام وتوقيتات الاقتحام. واحتفظ رئيس العمليات بمجموعتين، ليدفع بهما فى اتجاهات الهجوم المتعثرة. 

كلنا يحفظ خريطة القنطرة مثل كف يده. نعرف المسافة بين المبانى بعدد خطوات.. نقطعها بعيون مغمضة. تقدمت ضمن مجموعتى إلى مبنى مخزن المعونة الأمريكية المقام منذ الحرب العالمية. قبل أن نصل بأمتار انطلق الرصاص ناحيتنا من داخل المبنى. أمرنا قائد المجموعة بالانتشار منبطحين وبعدم إطلاق النار. سمعته يبلغ قائد العملية ليأمر بقصف المبنى بالمدفعية. بعد لحظات انطلقت القذائف نحو المبنى، فتوقف إطلاق النار المعادى. تقدمنا بسرعة. زميلى ألقى بقنبلة يدوية فى المدخل وتوارينا قليلًا. انفجرت ولم نجد ردًا، فاقتحمنا المكان وأمطرناه بالرصاص. اندفعنا إلى البهو الداخلى، وتوزعنا على أبوابه الثلاثة، وألقينا وراء كل باب قنبلة يدوية وتوارينا. انفجرت القنابل فسمعنا أنينًا وصراخًا، ورأينا جنديًا يتقدم رافعًا يديه. قام جندى قاذف اللهب بتكميم فمه وقيّد يديه وراء ظهره، ومزق سترته وربط بها قدميه ليمنعه من الحركة، ثم أمره بالجلوس خارج المبنى دون حركة فامتثل. اقتحمنا الغرف فأحصينا سبعة قتلى واثنين يحتضران نتيجة إصابات بالغة. حقناهما بالمورفين، وأبلغنا قائد العملية لنقلهما للمستشفى. 

أمرنا قائد العملية بالتوجه لفندق الشرق، لأن المجموعة التى تهاجمه تواجه مقاومة شديدة. اقتربنا فوجدنا المجموعة قد خسرت جنديين وأُصيب اثنان آخران. أبلغنا القائد بأن بعض الجنود يحتلون الطابق الثانى، ويطلقون الرصاص على رجالنا، وأنه طلب مساعدة المدفعية، فتبين أن الفندق خارج مرمى المدفعية. أمر القائد اثنين من القناصة أن يحتلا سطح بيت مهدم مواجه للفندق، وأمرهما أن يكونا مستعدين لإطلاق النار على المتحصنين بالطابق الثانى، ثم أشار فاقتحمنا الفندق وتوزعنا داخله. فكر القائد فى حيلة لإخراج جنود العدو من مكمنهم، فأوعز لنا فافتعلنا مشاجرة صاخبة انتهت بإطلاق نار. انطلق الرصاص فظن جنود العدو فى الطابق الثانى أن المعركة تدور مع زملائهم فهمُّوا لنجدتهم، ولأن القناص يحتاج لنصف فرصة ليقضى على خصمه، فقد اصطادهم قناصونا بمجرد رفع رءوسهم. كانوا ثلاثة، سقط اثنان فاستسلم الثالث. وأحصينا تسعة قتلى فى الفندق. 

تم تمشيط المدينة، وكانت حصيلة خسائر العدو ثلاثة وعشرين قتيلًا، وثلاثين أسيرًا، وكمية كبيرة من الأسلحة والذخائر. بعد ثلاث ساعات قمنا بعملية تجميع للقوات، وعُدنا إلى نقطة التمركز، حيث هنأنا رئيس العمليات على تحرير القنطرة نهائيًّا، وترحم على الشهداء الستة الذين خسرناهم، وطمأننا على حالة الأحد عشر جريحًا، وقال إن الثمن باهظ، لكن تحرير الأرض يستحق الكثير.

فى طريق العودة نظر نحوى قائد مجموعتى، وأشار إلى وجهى سائلًا: ما هذا؟ نظرت متسائلًا فى دهشة. قال: الدم يغطى رقبتك وملابسك، مددت يدى لا شعوريًا فأحسست بألم شديد فى أذنى، تذكرت أن رصاصة مرقت بجانب رأسى، فحمدت الله أنها لم تصبنى، لكن يبدو أنها احتكت بأذنى فأصابتها، ولم أشعر بشىء لشدة القتال. كتمت الدماء، ولمَّا وصلنا إلى السرية الطبية اكتشف الطبيب أن الرصاصة أطاحت بقطعة من صوان أذنى اليمنى. ابتسم الضابط الطبيب وقال: من حقك أن نخليك إلى الخطوط الخلفية. رفضت بالطبع، وفضلت أن أحتفظ بالوسام ليزين أذنى اليمنى.