رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى الشدائد تظهر المعادن

من الأقوال المأثورة التى تعجبنى تلك الجملة المنسوبة للإمام الحسن البصرى: «استوى الناس فى العافية فإذا نزل البلاء تباينوا». وحديثًا قال أحدهم: «الأيام تكشف معادن البشر.. والمواقف تكشف عمق المشاعر وصدق القلوب». وهكذا كانت مصر دائمًا فى كل نائبة تنزل بأشقائها لتبقى هى الداعم الأول والسند والمعين بعد الله سبحانه.
صفحات التاريخ قديمه وحديثه ومعاصره تشهد بهذا لمصر وطنًا ومواطنًا. وهى إذ تفعل هذا فهو واجب تؤديه ليس منّا ولا تتبعه بأذى، بل إن أهلها- ولفرط كرمهم- يشعرون بالتقصير مهما بذلوا، وبالحرج مهما قدموا. وفى أيامنا تلك كشفت الأحداث العظام والنوائب التى حلّت بالأمة فشردت عزيزها وفرقت جمعها، فإذا مصر تفتح لهم قلبها قبل أبوابها، وإذا بأصالة المصريين تتكشف للقاصى والدانى.
لم نسمع يومًا عن مصرى حارب وافدًا فى لقمة عيشه، ولم نقرأ عن مواطن منّ على شقيقه الذى شردته الأيام ونكّلت به الأحداث السياسية فى بلده الأم، لأن المصريين جميعًا لديهم قناعة ويقين بأن مصر ليست بلدهم وحدهم، بل هى بلد العرب أجمعين وموطن من اختارها وطنًا بديلًا. وهكذا تبدّت طيبة المصريين فى تلك الأحداث التى شهدها كثير من البلدان العربية، رغم ما لا يخفى على أحد من ظرف اقتصادى ضيّق على الناس أرزاقهم وفرض عليهم تقشفًا إجباريًا. لكنها طبائع الفلاح المصرى وأخلاق أولاد البلد الذين يجودون بالموجود، ويتقاسمون الرغيف مع ضيفهم حبًا وكرامة.
وحين نزلت بالشقيقتين العربيتين ليبيا والمغرب فى الأسبوع المنقضى بعض نوائب الدهر التى هى من أقدار الله والتى لا راد لها حزنت قلوب المصريين وأبدوا تعاطفًا غير مفتعل، وأدوا صلاة الغائب على أرواح الضحايا عقب صلاة الجمعة فى الجامع الأزهر الشريف وعبر كل محافظات مصر. كما لم تغب الدولة المصرية عن مشاركة مواطنيها طيب مشاعرهم تجاه الأشقاء فأعلن الرئيس الحداد الوطنى العام فى عموم البلاد لمدة ثلاثة أيام، فكيف نسعد ونلهو ولنا إخوة بأعداد تجاوزت الآلاف قد غُيبوا تحت الثرى أو شُردوا حيث لا مأوى أو أُصيبوا إصابات بالغة.
وبسرعة شديدة اجتمع الرئيس بكبار قادة القوات المسلحة لتقرير ما يمكن تقديمه فى هذه الأحوال. وصرّح بأن ما يهمه هو تلبية المطالب التى تقدم تيسيرًا أو تسهيلًا لتخفيف الكارثة الموجودة إذا كانت تلك المطالب متمثلة فى أطقم إغاثة، فرق إنقاذ، معدات مطلوبة أو معسكرات إيواء. وعلى مستوى المجتمع المدنى بادر الهلال الأحمر المصرى بتجهيز وإرسال أكثر من 100 طن من المواد الإغاثية للمغرب، وإرسال 90 طنا أخرى إلى ليبيا عبارة عن خيام وأغطية وأدوات نظافة وأغذية جافة وأدوية وغيرها.
وما كان لهذه الجهود أن تتم وتنجح فى إنقاذ ما يمكن إنقاذه لولا جهود المتطوعين من الشباب الذين بادروا بتلبية نداء الهلال الأحمر فعملوا بدأب على تجهيز وتعبئة المواد المطلوبة بصدر رحب وقلوب مفتوحة ومحبة كبيرة. وشخصيا كان لى شرف زيارة المغرب نحو ثلاث مرات وليبيا مرة واحدة ولى فيهما صداقات حقيقية وافتراضية كثيرة. ومن خبرتى بشعبيهما يمكننى القول إنهما من أقرب وأحب شعوب الأرض إلى المصريين، إذ لا يتصنّعون محبة ولا يتظاهرون بمودة، فهم كذلك بالفعل.
ولمصر مواقف مشابهة مع الأشقاء الوافدين إليها من اليمن وسوريا والعراق والسودان وغيرها. ولطالما أسعدتنى تلك الفيديوهات والكتابات المنشورة مؤخرا من إخوة وافدين كانت لهم تجارب حقيقية وغير مصطنعة مع مواطنين مصريين عاديين بعيدًا عن الكاميرات ودون انتظار الجزاء أو الشكر، لما أظهروه معهم من شهامة- نراها نحن أمرًا طبيعيًا وعاديًا جدًا- لأنها طبع أصيل فى شعبنا، فى حين يذكرها لنا الإخوة بامتنان وعرفان شديدين. 
أعود لمخاطبة أولئك الذين سعوا مرارًا لنزع مصر من عروبتها أو التشكيك فى انتماء المواطن المصرى لأمة العرب، لأقول إن الأحداث المتجددة ووقائع التاريخ فضلًا على الجغرافيا تُفنّد جميعها هذا الذى تدّعون وتدحض كل ما تفترون. غير أننا كعرب لسنا فى حاجة لانتظار مثل تلك النوائب لنظهر تقاربا واتحادا، فليتنا نشرع بالتقارب وتوطيد العلاقات فى الظروف العادية لنثبت للعالم كله أننا أمة واحدة تتضامن شعوبها وتتكاتف فى السراء كما يفعل الأصلاء منها فى الضراء.. رحم الله ضحايا زلزال المغرب وإعصار ليبيا ووقى أمتنا فى المشرق والمغرب من كل مكروه وسوء.