رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"فاجنر" .. انقلب السحر على الساحر

تصريحات مغلفة بالاتهامات ضد الجيش الروسى أطلقها قائد مجموعة «فاجنر» العسكرية «يفجينى بريجوجين» مؤخرا، فسرها المعسكر الغربى أن ثمة خلافات ليست وليدة اللحظة بين الرئيس الروسى «فلادمير بوتين» وقائد مجموعة «فاجنر»، بينما قدم المتحدث باسم الكرملين «دميترى بيسكوف» تعليقا مقتضبا لوكالة «سبوتنيك» الروسية حول هذا اللقاء قائلا: إن «الشيء الوحيد الذى يمكننى التصريح به هوأن الرئيس قدم تقييمًا  لأعمال الشركة العسكرية فى خطوط المواجهة خلال العملية العسكرية فى أوكرانيا، واستمع «بوتين» لقادة الشركة بهذا الشأن، وعرض عليهم المزيد من خيارات التوظيف وخيارات العمل فى المجال العسكرى»، فيما أكد قادة المجموعة ولاءهم للجيش وقيادة البلاد، وأعربوا عن استعدادهم لمواصلة القتال والدفاع عن الوطن. فى لقاء تجاوز الثلاث ساعات.
تقارير وسائل الإعلام الغربية قدمت تفسيرات مختلفة حول العلاقة بين الشركة العسكرية ووزارة الدفاع الروسية، وأن «بريجوجين» يقود تمردا ضد الدولة الروسية، ومطالب جديدة له من أجل استئناف عمل شركة «فاجنر».
يقودنا هذا الأمر لمعرفة المزيد عن هذه الشركة العسكرية الخاصة وما هى الدوافع وراء احتقان العلاقة بين الطرفين، بالرغم من عودة «فاجنر» للعمليات العسكرية مجددا فى الأراضى الأوكرانية.
ليس بالأمر السهل أن تخرج روسيا مهزومة دون أن تحقق أهدافها من العملية العسكرية التى تقوم بها فى أوكرانيا، روسيا دولة عظمى بما تملكه من رءوس نووية قد تلجأ إلى استخدامها فى حالة هزيمتها، ولاسيما أن الدب الروسى يؤكد دائما حرصه على أن ما يقوم به فى العاصمة «كييف» ما هى إلا عمليات عسكرية وليست حربا شاملة، والأهداف من العمليات العسكرية محدده بشروط ومطالب، وهذا الأمر الذى يفسر لنا لماذا اعتمدت روسيا على شركة ذات طبيعة عسكرية مختلفة عن طبيعة عمل الجيوش النظامية التى تحكمها قوانين وأعراف دولية تلتزم بها وإلا تقع تحت طائلة القانون الدولى، ومن ثم لنتعرف أكثر على نشأة مثل هذه الشركات العسكرية الخاصة.
عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وأثناء فترة الحرب الباردة تقاعدت معظم القيادات العسكرية التى شاركت فى الحرب العالمية، وانضمت للحياة المدنية بما تمتلكه من خبرات أمنية، من هنا جاءت الفكرة لتأسيس شركات عسكرية أمنية خاصة تضم هذه القيادات، إلا أن البعض يرى أن هذه الفكرة جذورها قديمة ومرتبطة بعصابات المرتزقة التى يدفع لها المال من قبل امبراطوريات ودول قديمة جندت هؤلاء مقابل القيام بعمليات عسكرية، مثل الاغتيالات وقطع الطرق وحماية القوافل والشخصيات المهمة، والمشاركة فى الحروب. 
يطلق على هذه الشركات مسمى «مضاعفى القوة» كونها تشكل نقطة دفاع للجيوش الوطنية التى تستخدم كبديل لها فى حالة الحروب أو تكون أطرافا فاعلة فى نزاع مسلح معين بما تملكه هذه الشركات من تدريبات خاصة وأسلحة متطورة
كما أن أول ظهور للمسمى الحديث لشركة أمنية كان فى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1946، حيث أسسها محاربون قدامى، أطلقوا عليها اسم «داين كورب»، كما أسس العقيد البريطانى ديفيد ستيرلبنج شركة أمنية تحمل اسم «ووتش جادر انترناشيونال»، ومن أبرز أعمالها كان فى منطقة الخليج. وتعتبر شركة «بلاك ووتر» هى الأشهر عالميا، استعانت بها الإدارة الأمريكية أثناء احتلال العراق بغرض حماية شخصيات ومنشآت عسكرية مقابل مليارات من الدولارات، وهذا ما يميز هذه الشركات عن مفهوم المرتزقة بأنها تعمل بالتنسيق مع حكومات وجيوش نظامية، كما أن البعض ينفى عنها صفة المليشيا، نظرا لأن المليشيات لديها عقيدة سياسية أو دينية، أما الشركات الخاصة العسكرية مرتبطة بمن يدفع لها فقط.. كما ينتفى عن عمل الشركات الأمنية مفهوم «المرتزقة» التقليدى، ذلك أنهم يعملون بالتنسيق مع حكومات وجيوش نظامية أو مع مجموعات مسلحة ومليشيات تتوافق مع مصالح بلدانهم.
مجموعة «فاجنر» هى إحدى الشركات العسكرية الروسية الخاصة، ذاع صيتها عام 2014 شاركت فى حرب إقليم «دونباس» بأوكرانيا لمساعدة القوات الانفصالية التابعة للجمهوريات الشعبية دونيتسك ولوهانسك المعلن عنها ذاتيا، وفى عام 2015 انتشرت أفرادها فى سوريا مشتبكة مع أطراف الصراع السورى، كما شاركت فى عمليات نوعية ضد المليشيات فى ليبيا منذ 2018، وامتد نشاطها فى بعض البلدان الإفريقية جنوب الصحراء.
ومما لاشك فيه أن يعتمد «بوتين» على هذه الشركة فى العمليات العسكرية التى تقوم بها روسيا فى أوكرانيا، وخاصة أن هناك معلومات شبه مؤكدة أن ثمة علاقة قوية تربط بين «بوتين» ورئيس مجموعة «فاجنر» رغم حالة التمرد التى يقوم بها الأخير ضد روسيا بهدف تحقيق مكاسب ودعم أكبر لمجموعته.
«يفجينى بريجوجين» تنحدر أصوله من مدينة سان بطرسبرج، وتعود علاقته بالرئيس «بوتين» منذ فترة التسعينيات من القرن الماضى، عندما كان بوتين يعمل فى مكتب عمدة سان بطرسبرج- بحسب ما ذكره موقع الـ«بى بى سى»- وكان يتردد حينها على مطعم «بريجوجين» الذى كان يحظى بشعبية بين المسؤولين المحليين، وتوطدت العلاقة بينهما وأسند «بوتين» إليه تعاقدات مع الحكومة الروسية، أسفرت هذه العلاقة عن تأسيس شركة «فاجنر» للعمليات العسكرية الخاصة والتى ذاع صيتها عام 2014، الأمر الذى فسره البعض أن هذه الشركة تم تأسيسها بواعز من المخابرات الروسية نتيجة العلاقة القوية بين «بوتين» و«بريجوجين».
مع انتشار هذه الشركات شبه العسكرية الخاصة لم يكن أمام دول العالم سوى محاولة لتنظيم مثل هذه الشركات من واقع قوانين تحمها حتى يتم محاسبتها قانونيا. الحكومة السويسرية بمشاركة دول أخرى أعلنت عن مبادرة تتعلق بمراقبة وتنظيم عمل هذه الشركات من واقع اصدار «وثيقة مونترو» لعام 2008 بشأن الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، حيث تضمنت بنودا صارمة لامتثال هذه الشركات الخاصة للقانون الدولى لحقوق الإنسان وتحسين الرقابة عليهم ومساءلتهم. 
ومع صعود الشركات العسكرية والأمنية الخاصة كفاعل دولى حاضر بقوة فى مشهد العلاقات الدولية تؤكد «وثيقة مونترو» التى أعدتها الحكومة السويسرية والصليب الأحمر، التأكيد على أن الدول ملزمة بضمان قيام الشركات العسكرية والأمنية الخاصة التى تعمل أثناء النزاع المسلح بالامتثال للقانون الدولى الإنسانى وقانون حقوق الإنسان، وينبغى على الدول أيضا اتخاذ تدابير عملية لضمان إمكانية ملاحقة موظفى الشركات العسكرية والأمنية فى حال وقوع انتهاكات جسيمة للقانون.
رغم أن هذه الوثيقة معترف بها لدى الأمم المتحدة إلا أن الدول الكبرى من بينها روسيا والولايات المتحدة الأمريكية لم توقع على هذه الوثيقة، وبهذا تعتبر غير ملزمة لها، وهو الأمر الذى يؤكد أن هذه الشركات خارج سيطرة القانون الدولى ويصعب ملاحقتها قانونيا.
فى الأساس موظفو هذه الشركات هم أشخاص مدنيون وبالرجوع إلى تحديد الوضع القانونى لموظفى هذه الشركات ليس هناك قانون دولى تخضع له باستثناء القانون الدولى الإنسانى، ولكل حالة لها ما ينطبق عيها من قانون وفقا لطبيعة وظروف والمهام التى يشاركون فيهان رغم ذلك تتنصل هذه الشركات من كل القوانين والأعراف الدولية، بلغ الأمر أنها أصبحت دويلة داخل الدولة فى أحيان كثيرة.
رغم ذلك، تعد هذه الشركات أحد الكيانات التجارية ذات طابع ربحى تعمل لمن يدفع، إلا أن لها دورًا فى الأعمال الإنسانية تستعين بها بعض الدول لمجابهة الكوارث الطبيعية بهدف تخفيف العبء عن الجيوش النظامية، وتتجلى هذه الأعمال فى مواجهة الأعاصير والكوارث البيئية بما لها من قدرات ومهارت تدريبية خاصة لأفرادها تمكنها من الوصول إلى الأشخاص فى تلك الأماكن التى يصعب الوصول إليها بواسطة قوات الأمن النظامية، هذا فضلا عن دور هذه الشركات فى الأمن الشخصى كحماية الأشخاص والأعيان ومرافقة الشخصيات العامة وحمايتة وحماية المنشآت والمرافق وحتى احتجاز السجناء واستجوابهم داخل السجون تكون هذه الشركات برفقتهم أثناء التحقيقات.
تنامى هذه الشركات التجارية ذات الصلة الوثيقة بالأعمال العسكرية وأمن الأفراد، وتعاظم ثرواتها جعل الأمر أكثر غموضا حول مستقبل هذه الشركات بما تملكه من أفراد تم تدريبهم على أعلى مستوى يفوق قدرات بعض الجيوش النظامية ومن هذا المنطلق يتم إسناد إليهم مهام صعبة ومعقدة، وفى ظل غياب قانون دولى يمكن به ملاحقة هذه الشركات فى حالة وقوع أخطاء جسيمه، إذن ما هو مستقبل هذه الشركات؟؟ وإلى أى مدى تفرض سيطرتها على الأرض؟؟..وما مدى تدخلهم فى شئون البلاد؟... فى ظل مخاوف انقلاب هذه الشركات على حكم البلاد التى تعمل بها كما زعمت وسائل الإعلام الغربية ووصفها بانقلاب «فاجنر» على «بوتين»؟؟!!.. ولماذا تستعين بها بعض الدول.. ولماذا ترفضها دول أخرى؟؟.. هل الشركات الخاصة العسكرية ستصبح بديل الجيوش النظامية لبعض الدول التى تفتقد للجيوش الوطنية؟.. أسئلة يصعب الإجابة عليها الآن، وإنما الليالى من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيب!!.