رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

موت الناقد.. هل ينهى «الذكاء الاصطناعى» دور نقاد الأدب؟

الذكاء الاصطناعى
الذكاء الاصطناعى

- الناقد والأديب أحمد شبلول: يطهر الساحة من الدخلاء والأدعياء

- «النقد الإلكترونى» قادر على تحليل أعمال مؤلف معين وأسلوب كتابته

- المستجدات التقنية تنتج تقييمًا موضوعيًا للأدب 

- التطورات الحديثة تقدم تحليلات أدبية فورية قد تستغرق أيامًا من العمل البشرى

حين نشر الناقد الراحل جابر عصفور كتابه: «تحديات الناقد المعاصر» قبل ٩ سنوات، لم يكن «تحدى الآلة» قد وجد أرضية صلبة له فى الخطاب النقدى والثقافى بشكل عام، فاليوم، لم يعد الناقد الأدبى فقط أمام التحديات التى أوردها «عصفور» فى كتابه من تحديات منهجية ونصية وثقافية واجتماعية سياسية، وإنما صار وجوده ذاته موضع تهديد، لا بسبب فقدانه السُّلطة أمام سلطة القارئ الناقد، مثلما تحدّث رونان ماكدونالد من قبل فى كتابه «موت الناقد»، وإنما جراء تطور تقنيات الذكاء الاصطناعى بصورة تفوق التوقع، خاصة فى مجال تحليل النصوص ونقدها. 

مع «الفورة» الكبيرة التى شهدتها الفترة الأخيرة من تقديم إصدارات روائية كتبها الذكاء الاصطناعى، فلا تزال استخداماته فى المجالات الإبداعية موضع استشكال كبير، إذ يرجح المتخصصون أن تطوره الهائل لن ينجح فى أن يُقصى الإبداع البشرى، وأنه على الأرجح لن ينجح فى تقديم نبرة خاصة تشبه الصوت البشرى المميز لكل كاتب. 

أما فى مجال النقد الأدبى، فالمتخصصون أكثر ترحيبًا بإمكانات الذكاء الاصطناعى وتخوفًا على مستقبل الناقد الأدبى، إذ يتفق معظمهم على أن التطورات الحديثة بات بإمكانها تقديم تحليلات وتفسيرات أدبية فورية قد تستغرق أيامًا طوالًا من العمل البشرى، لما يمتلكه من سعة تخزينية كبيرة تتيح للآلة أن تجرى الكثير من المقاربات والمقارنات فى تحليل النصوص الأدبية وبصورة فورية. 

النقاد على الهامش

يرى إنديرجيت مانى، أستاذ علم اللغة الحاسوبى، أن الذكاء الاصطناعى بإمكانه إلقاء الضوء على الجوانب الرئيسية للسرد، بما فى ذلك الزمن والمكان والشخصيات والحبكة، كما يمكنه أن يقدم فى دقائق تحليلات إحصائية حول عناصر السرد من المنظور البنيوى قد تستغرق أيامًا طويلة من عمل الناقد. 

وتوقع «مانى»، فى مقاله المنشور بموقع «aeon»، أن يواجه النقاد الأدبيون فى المستقبل خطر الزوال، خاصة أولئك الذين لن يتسلحوا بأدوات الذكاء الاصطناعى ويفيدون من منجزاته وإمكاناته، موضحًا أن الذكاء الاصطناعى سيثرى الثقافة الأدبية ويغير أنواع الأسئلة التى يمكن اكتشافها، ومن سيقاوم إغراء إطلاق العنان لقدرات الآلات سيضطر إلى الاكتفاء بالمتعة التى توفرها الاكتشافات الأقل حجمًا، وهو ما يجعل النقاد على الهامش فى أفضل الأحوال. 

وفى مقال له، عدّد مارسين فراكيفيتش، رئيس مجلس إدارة موقع «ts2» المعنى بالتطورات التكنولوجية، استخدامات الذكاء الاصطناعى فى مجال قراءة الأدب وتحليله، فلفت إلى أن التطورات فى هذا المضمار خلال السنوات الأخيرة صارت تسمح باكتساب نظرة ثاقبة لأعمال المؤلفين، وهو ما كان مستحيلًا فى السابق.

وأوضح كاتب المقال أن الذكاء الاصطناعى صار قادرًا على تحليل أعمال مؤلف معين، وأسلوب كتابته، ومدى تطورها من عمل إلى آخر، أو كيف تأثرت كتاباته بمؤلفين آخرين، فضلًا عن مقارنة أساليب الكتابة لمؤلفين مختلفين، وتحديد أوجه التشابه والاختلاف.

فضلًا عن ذلك، بإمكان التطورات الحديثة فى هذا المجال أن تضطلع بمهمة تحليل موضوع العمل ورسالته الأساسية، كما أنه يوفر نطاقًا أكبر من وجهات النظر حول الأدب مما هو ممكن مع النقاد البشريين وحدهم، ومن ثم فالذكاء الاصطناعى يمكنه إنتاج تقييم موضوعى للأدب خالٍ من تحيزات النقاد الفرديين. 

وبناءً على هذه المقدمات، وصل الكاتب إلى أن «مكانة الناقد البشرى مهددة بصورة واضحة»، وتوقع أن يشهد المستقبل اهتمامًا أقل بتقييماتهم النقدية، بعد أن وصل الذكاء الاصطناعى فى هذا الصدد إلى درجة مقبولة. 

فى حديثه مع «الدستور»، أشار الخبير فى التكنولوجيا، المستشار الأكاديمى فى جامعة «سان خوسيه» الحكومية بالولايات المتحدة الأمريكية؛ أحمد بانافع، إلى أن الذكاء الاصطناعى صار يمتلك قدرات هائلة فى تحليل النصوص الأدبية ونقدها، والتى تشمل: معالجة اللغة الطبيعية، والتعلم الآلى، والاستدلال والتفسير، والتحليل الإحصائى، والمقارنة والتصنيف، والتحليل السريع والموضوعى. 

وأوضح «بانافع» ذلك بالإشارة إلى قدرة الذكاء الاصطناعى على تحديد نمط اللغة والأسلوب المستخدم فى النص، والكشف عن العلاقات بين الكلمات والأفكار، كما أنه يستطيع استخدام الاستدلال المنطقى والقواعد النصية للتحليل والتفسير، واستنتاج المعانى الضمنية والمغلوطة فى النص، وتحليل الشخصيات وتطور القصة، واستنتاج الرسائل والموضوعات الرئيسية التى يحملها النص، وكذلك يمكنه مقارنة النصوص المختلفة وتحليلها بناءً على عدة معايير مثل الأسلوب والموضوع، ومعالجة عدة نصوص بسرعة وفاعلية، ما يتيح إمكانية تحليل وتفسير النصوص بشكل موضوعى ومحايد دون تحيزات شخصية.

ويستطيع فضلًا عن ذلك استخدام التحليل الإحصائى لاكتشاف الأنماط والاتجاهات فى النصوص الأدبية، واستخلاص المعلومات الإحصائية حول استخدامها فى النص، بما يسهم فى كشف الأساليب الأدبية المستخدمة والتأثيرات اللغوية المتنوعة.

هل «النقد الإلكترونى» أكثر موضوعية؟

تشير الكثير من التحليلات إلى أن «الموضوعية» من أبرز المكاسب التى سيتيحها «النقد الإلكترونى» للنصوص الأدبية، إذ نوّه «بانافع» إلى أن الذكاء الاصطناعى لديه القدرة على تحليل النصوص وتفسيرها بشكل سريع وفعال، بفضل قدراته الحسابية والتحليلية الهائلة، وقد يكون أكثر قدرة على التحليل الموضوعى وتفسير النصوص بمجرد تزويده بمعلومات موضوعية ومحايدة.

وتوقع الناقد والأديب أحمد فضل شبلول، فى حديثه مع «الدستور»، أن يسهم «النقد الأدبى الإلكترونى»، أو برنامج «الناقد الإلكترونى» فى تطهير الساحة الأدبية والنقدية من الدخلاء والأدعياء والمزيفين والمحتالين وأصحاب السرقات الأدبية والفنية. 

وأوضح ذلك بقوله: «من الممكن أن نرى قريبًا الإنسالى (إنسان آلى) أو (الروبوت الناقد)، الذى تعطيه الرواية أو القصة القصيرة أو المسرحية أو القصيدة، فنرى بعد قليل مقالًا نقديًا يتعامل مع الأفكار والمفردات اللغوية، والتراكيب الجمالية المطروحة فى النص، بطريقة مذهلة قد لا نتوقعها من الناقد البشرى، ولعلنا إذا أدخلنا السيرة الذاتية للكاتب أو السيرة الأدبية، لرأينا نتائج أكثر إبهارًا».

أما الخبير فى التطور التكنولوجى، هشام الناطور، فقد نظر إلى قضية «الموضوعية» لدى الذكاء الاصطناعى من منظور مغاير، بوضعها فى سياقها العالمى، حيث الذكاء الاصطناعى أداة بيد القوى العظمى من دول وشركات تتصارع مع بعضها البعض.

وقال «الناطور»، فى حديثه مع «الدستور»، إن كل جهة من الجهات المهيمنة فى مضمار الذكاء الاصطناعى تدرب أدوات الذكاء الاصطناعى الخاصة بها على التعاطى مع المعلومات وتفسيرها وتصنيفها وفلترتها، وبالتالى ما سيقدمه الذكاء الاصطناعى سيكون نتاجًا لما تغذّى به من معلومات تحمل وجهة نظر أصحابها وأهدافهم وتحيزاتهم. 

وتابع: «فى مجال نقد النصوص وتحليلها، سيقدم الذكاء الاصطناعى تحليلات وتفسيرات تعتمد على آراء الجهة المبرمجة، وهو ما ينفى عنه صفة الموضوعية، ومن ثم، يمكن للناقد أن يستفيد من الاطلاع على ما تقدمه أكثر من تقنية، ثم اختيار ما هو منطقى وأقرب إلى الحقيقة لوجود الكثير من التضاربات والمغالطات».

ما دور الناقد مستقبلًا؟

هل ينتهى تمامًا دور الناقد الأدبى؟ يجيب أحمد فضل شبلول بأنه من الأقوال المأثورة عن الناقد الفرنسى سانت بيف (١٨٠٤ - ١٨٦٩): «أريد سعةَ العلم، على أن يسيطرَ عليها الحكمُ، وينظمها الذوق»، مضيفًا: «يبدو أن فى هذا العنوان- وقتها- شيئًا من الدعابة. لكن النقد الأدبى الإلكترونى، خاصة فى ظل وجود شبكة الإنترنت العالمية، أصبح حقيقة علمية واقعة، فهو يجمع بين سعة العلم التى تتيحها شبكة الإنترنت، وينظمها الذكاء الاصطناعى، وذوق الناقد البشرى الذى لا بد أن تكون له كلمة أيضًا فى مسألة النقد الأدبى ما دمنا نتحدث عن الإنسانيات، أو العلوم الإنسانية، التى مهما بلغت درجة الذكاء الاصطناعى فلن يكون بديلًا عن الإنسان، أو يحل محله».

وواصل: «تحدثت عن هذا الأمر مبكرًا فى كتابى (أدباء الإنترنت أدباء المستقبل ١٩٩٦)، وقلت إن النقد الأدبى الإلكترونى قد يستفيد من أحد المناهج النقدية، وقد يستفيد منها مجتمعه، إذ إنه يسعى إلى إقامة منهج نقدى متكامل، باستخدام الحاسب الآلى، وإمكانات شبكة الإنترنت العالمية، وخاصة بعد التقدم الهائل الذى أحرزه الذكاء الاصطناعى، وقد يُوجد لنا منهجًا جديدًا فى التعامل مع النصوص الأدبية والفنية».

وأكمل: «أصحاب النقد العلمى المتكامل، أو أصحاب النقد الثقافى، سيكونون من أكثر النقاد استفادة من النقد الأدبى الإلكترونى، فالناقد العلمى يستطيع عن طريق جهاز الحاسب الآلى، أو عن طريق الاشتراك فى شبكة عالمية مثل الإنترنت، أن يجد بسرعة كل الكتب وكل المقالات التى تتعلق بموضوعه الأدبى الذى يعمل عليه، ويستطيع فى دقائق معدودات الحصول على كل البطاقات عن موضوع معين يبحث فيه. ولكن يلاحظ أن الحصول على كل المعلومات أو كل البطاقات ليس كافيًا لوجود النقد الخلاق، وإنما النقد الخلاق يبدأ من حيث تنتهى سعة العلم التى تتيحها شبكة الإنترنت».

وتابع: «إذا كان أمام الناقد جبالٌ من العلم وأنهارٌ من المعرفة، وليس لديه الذكاء النقدى العالى، فإنه لن يفيدَ إلا فى أقل القليل، بل ستكون وفرة المعلومات عقبة أمام تذوق النص، لأننا فى النهاية نريد من الناقد العلمى أن يجمع بين سعة العلم وتذوق النص. وهو ما يمكن أن يحققه الذكاء الاصطناعى أو النقد الأدبى الإلكترونى، الذى يقوم على استثمار الإمكانات المعرفية الهائلة، وأنهار المعلومات والوثائق الأدبية والسياسية والاجتماعية.. إلخ، التى تتيحها على نطاق واسع أجهزة الحاسبات الشخصية، التى من الممكن أن توفر جميع المراجع الأدبية والنقدية والوثائق والنصوص التى يحتاج إليها الناقد بمجرد ضربة أو لمسة أحد أزرار لوحة المفاتيح، أو يستطيع الاستعانة بأحد البرامج التى من الممكن أن تصمم خصيصًا لهذا الغرض».

ويتفق «بانافع» مع هذا الطرح، فيقول: «يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعى أداة مهمة لمساعدة النقاد فى عملهم، بتوفيره تحليلات أولية سريعة وموضوعية، ما يمكن الناقد من توجيه اهتمامه إلى الجوانب الأدبية العميقة، وتقديم تحليلات فريدة وأعمق»، مضيفًا: «قد يكون العمل المشترك بين الذكاء الاصطناعى والناقد البشرى وسيلة فعالة لتحسين جودة النقد الأدبى».

وواصل: «على الرغم من تقدم الذكاء الاصطناعى فى مجال تحليل النصوص ونقد النصوص الأدبية، لا يزال النقاد يلعبون دورًا مهمًا فى تقديم التفسيرات والتحليلات الفريدة، والإضافة الثقافية العميقة للنصوص. قد تكون أدوات الذكاء الاصطناعى بمثابة إضافة قوية لمهارات النقاد ومساعدتهم فى العمل، ولكنها ليست بديلًا كليًا عنهم».

واختتم حديثه قائلًا: «يجب أن نلاحظ أن الذكاء الاصطناعى لا يمتلك الخبرة الإنسانية والفهم الثقافى العميق الذى يتمتع به النقاد. قد يكون للنقاد القدرة على توجيه الانتباه إلى جوانب محددة من النصوص وتقديم تحليلات معمقة ومبتكرة. لذلك، يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعى أداة مساعدة مهمة للنقاد بدلًا من بديل لهم».