رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الفن القصصى فى القرآن الكريم» يفجّر معركة مُبكرة ضد تجديد الفكر الدينى

الشيخ محمد أحمد خلف
الشيخ محمد أحمد خلف الله

منذ ما يربو على سبعين عامًا، شهدت مصر واحدة من أكبر المعارك الفكرية ضد تجديد الفكر الدينى ودفاعًا عن التكلس الفكرى فى مواجهة أى رؤى مغايرة. 

كان البطل الذى وُجهت سهام المعركة صوبه هو الشيخ محمد أحمد خلف الله، خرّيج مدرسة دار العلوم العليا فى القاهرة ١٩٢٨، والذى كانت أطروحته المُقدّمة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة فؤاد الأول سببًا فى شن هجوم عليه لم يتوقف طوال حياته. 

فى العام الجامعى ١٩٤٧/١٩٤٨ قدّم خلف الله أطروحة بعنوان «الفنّ القصصى فى القرآن الكريم» تحت إشراف الشيخ أمين الخولى، وفيها يدرس الأشكال القصصية المتعددة فى القرآن، والتى تتنوع ما بين أشكال تاريخية وتمثيلية وأخرى أسطورية، بيد أن تلك الدراسة كانت سببًا فى اتهامات له شُنّت من كل حدب وصوب، بدءًا من الجامعة وصولًا إلى المنصات الإعلامية المختلفة آنذاك، والتى وصلت إلى حد المطالبة بإنزال حد الردة عليه. 

لم تتوقف الاتهامات عند صاحب الأطروحة ولكنها طالت المشرف عليها، ووُجِه الطالب وأستاذه بنقد لاذع إلى درجة اعتبرت معه «جبهة علماء الأزهر» أن الرسالة «أشد شناعة من وباء الكوليرا، الذى كان يحصد نفوس المصريين فى تلك الأيام». 

وصف أمين الخولى تلك الحملة بأنها «محنة عقلية وسقطة خُلقية وأزمة فكرية» لأناس لم يعهدوا النقد العلمى والتفنيد الموضوعى والرد المنطقى، وعلى الرغم من ذلك، ذاعت الرسالة وطبعت فى حياة مؤلفها ثلاث مرات، ولا تزال لبنة أساسية لكل بحث عن تجديد الفكر الدينى فى الإسلام. 

تقوم أطروحة الكتاب الرئيسية، كما يشرحها أمين الخولى فى أحد مقالاته، على التفرقة فى فهم القصص القرآنى ما بين العرض الفنى الأدبى للقصص، والعرض التاريخى المعتمد على الدرس التحقيقى لأحداث الماضى، إذ تثبت الأطروحة أن النص القرآنى فى عرضه أحداث الماضى وحياة السلف ارتكز على العرض الفنى الأدبى بالارتكاز على مقوماته وبإخلاله بمقومات العرض التاريخى التحقيقى.

جانب أساسى من دعوة الأطروحة التجديدية التى أثارت الكثيرين ضدها يتعلق بالنظر إلى القصص القرآنى بمنظور أوسع يدركها فى سياق «العبرة» وليس «الحقيقة التاريخية»، إذ يحاجج «خلف الله» بأن القصص القرآنى لم يأتِ لتأريخ الأحداث وإنما لتقديم العبرة بصورة أساسية. هذا يعنى أنه ليس هناك ما يثبت أن أحداث القصص القرآنى حقيقة وقعت بتفاصيل محددة وثابتة، مبرهنًا على ذلك باختلاف القصة القرآنية فى أكثر من سورة وبتشابه بعض القصص الأخرى فى الهدف والحوار والموضوع.

اعتمد «خلف الله» فى دراسة القصص القرآنى على مناهج لغوية وأدبية فى مواجهة منهج القدامى الذى انتقده فى دراسته، فقد أشار إلى أنهم ركزوا فى دراستهم للقصص القرآنى على اعتبارها من أدوات التاريخ مقدمة فى تصوير رائع دون التوقف للسؤال عن حقيقة وقوع هذه الأحداث التى تتناولها القصة فى القرآن. 

وبناء على منهجه، المعتمد على نظريات النقد الأدبى الغربيّة، نظر «خلف الله» إلى القصة فى القرآن من منظور أدبى، عارضًا خصائصها الفنيّة التى تهدف بالمقام الأول إلى تقديم الموعظة والإرشاد من خلال استثارة عواطف القارئ وخياله، ليدحض الفكرة المهيمنة عن تقديم القرآن للقصص القرآنى بغرض إثبات وقائع تاريخية، وهو ما اعتبره المهاجمون سعيًا لنزع القداسة عن النص القرآنى. 

وربما يكون أحد أهم ما حققه الكتاب من سعة أفق فى قراءة النص القرآنى متجليًا فى إثباته علاقة النص بالبيئة الثقافية حينًا والمنطلق الثقافى العام فى أحيان أخرى، وهو ما أشار إليه الباحث التونسى أحميدة النيفر فى قراءته لرؤية خلف الله، إذ أوضح أن الكتاب يعزز من فكرة أن النص القرآنى يحيل إلى البيئة الثقافيّة التى نزل فيها، ويختار القصص بما يتناسب مع تلك البيئة، ولكن حينما يورد قصصًا ذات منطلق ثقافى، فإنها تأتى بما يفيد العبرة للاطلاع على المقاصد الكبرى دون تركيز على تفاصيلها.