رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد عطا الله يغنى

في مقدمة إنتاج المتحدة من البرامج الجذابة والقادرة على تحقيق أهدافها الحيوية الفارقة، بالتراكم، ومن غير أن يتسلل الضجر إلى متابعيها بالمرة؛ برنامج مهمته التنقيب عن الفلكلور الوطني واحتضانه (الغنائي والموسيقي تحديدًا) عنوانه مصر تغني، البرنامج يذاع على القناة المصرية الأولى، فكرة وتقديم أحمد عطا الله وإخراج محمود نديم، عطا الله الصحفي بمجلة الإذاعة والتليفزيون والروائي المرموق الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في 2019 عن روايتة "غرب مال.. ما لم يحكه جرمون في السيرة الهلالية"- الرواية الصادرة عن دار العين للنشر في 2018، الذي له عدد من الأعمال الأدبية غيرها، وديوان شعري بالعامية تحت عنون "بتضحك لما أكون غايب"- صدر عن كتابي للطباعة والنشر والتوزيع في 2012، وله أيضًا مشاركات ذائعة في ميدان الإعداد للبرامج التليفزيونية، أشهرها الناس وأنا وزمن؛ هو من مواليد 1980، وينتمي إلى قرية أبي دياب شرق، بمركز دشنا التابع لمحافظة قنا، المركز المنغلق في الماضي، والمليء بالصراعات القبلية، ولقد عاش حياة صعبة في قريته بعد أن توفي أبوه وتركه بلا عائل في سن صغيرة، اضطره الوضع المعقد حينها إلى اغتراب يذكر باغتراب الهلالية الذين كان يهوى سماع سيرتهم الثرية الملهمة منذ بواكيره، اغترب ولو شبه اغتراب (ظل بداخل الوطن الحبيب ولكنه قصي عن موقعه وبيته وأصدقائه)، جرى ذلك ليخلق العمل ويواصل الدراسة ويبلغ الاستقرار، وبعد كفاح مرير بين العمل الشاق في طائفة المعمار بالشمال السيناوي، وبين التنقل من مدينة إلى أخرى لاستئناف التعليم، بالتوازي، حتى الحصول على المؤهل الجامعي، أصاب الاستقرار في القاهرة، واستلم وظيفته وأسس حياته وخطط لمستقبله، وبسرمدية اندفاق الأمل وحساب تدرج الخطوات، جنى ثمار جهوده، ولا يزال يجنيها بشهدها الصافي، والكسالى والمفلسون يستغربون عزمه ويحسدون نجاحه! 
أطروحاته الإبداعية الأخاذة متصلة بالناس اتصالًا وثيقًا (من ذلك حكاياته الحميمة: الناس دول.. حكايات من لحم ودم، وقصته الواقعية: مريم.. مع خالص حبي واعتقادي)، وكثيرًا ما يقول إن وجدانه نشأ على إيقاعات الربابة ومدائح ومواويل الراحل عبدالنبي الرنان، وما شاكلهما، وأظن ارتباطه بمنبعيه الثقافيين، المنبع المادي والآخر المعنوي، أصيلًا وملحوظًا.. أقصد أثر بيئته الأصلية وذوقه الخاص في ميله إلى نوعية فنية هي نتاج الفطرة الإنسانية المصاحب لمناسبات الخلق المختلفة، وهي أصداء أصوات القرى والنجوع والشوارع والأزقة، وهي أشواق أرواح العشاق الهائمين بنفحات الموالد الإسلامية والمسيحية الجمة، وما إلى تلك النواحي، باتساع هائل عن الميالين العاديين إلى مثلها طبعًا، لأنه حصد ثقافة شاملة ووعيًا باذخًا، بمرور الوقت، كما اتسم بنباهة ذاتية نادرة من الأساس فيما يبدو جليًا.
يلعب البرنامج دورًا فعالًا في تقريب الحالة الفنية الشعبية برمتها للمشاهدين، ودعم الطاقات القديمة في حقلها بطاقات شابة إضافية تسترعي الانتباه، وأرى فكرته، في العمق، تناوش الحالة الغنائية والموسيقية العبثية الراهنة المتدثرة، في أغلبيتها، بدثار شعبي زائف (المهرجانات وما إليها من الموضات المستفزة)، تناوشها بمنتهى الذكاء واللياقة، فلا انتقاد يذكرها مباشرة، ولا ثم شيء ينم عن صراع ظاهر ولا خصومة بادية، وإنما خطوط الحديث وخيوطه، بالجملة، هي عن فنون تراثية، أكثرها ارتجالي، تتصل بها آلات تنتسب إلى الجغرافيا المصرية المتعددة الرحبة، في تجليات ناسها البسطاء، بالذات، عندما يخترعون أدوات تلزم طرقهم التعبيرية، لكنها الفنون التي تعكس قيما نبيلة لا مثيل لها في التفرد باليسر والسلاسة وأريحية الوصول إلى جماعات المتلقين الذين ينتظرونها ويهفون إليها، وتعكس، بالمثل، جمالًا خالصًا بوضعها تحت المجاهر الفنية التقييمية الدقيقة، كأنها الدارسة، وما دراستها إلا العواطف الصادقة التي منشؤها معاملة الوجود بدون تحفز للتناقض أو القطيعة، وما دراستها إلا الخبرات الطويلة المدهشة اللامتعمدة! 
ربما كان ما اعتقدته هنا خطر ببال صاحبنا حقًا، وقد يكون جلل خاطره، أي مسألة مجابهته للركاكة بالجودة، من غير إفصاح يفسد الغاية، وعلى كل حال، ومهما كان اعتقادي هذا صائبًا أو خاطئًا، فهو عطاء واحد، ضمن أعطيات كثيرة، أجزلها عطا الله فيما كان فكر فيه ابتداء، ثم وفرت له الظروف الطيبة بثه بكيانه ولسانه، ولا ريب في كون أعطياته، إن مجموعة أو منفردة، تمنح شجرته الجديدة ثباتًا وتجذرًا أمام أشجار سابقيه الراسخة، كالمؤسس والباحث العظيم زكريا الحجاوي، وغيره من الرواد والمكتشفين الثاقبين في مجال الشعبيات..
قدم عطا الله نفسه إلى الجماهير تقديمًا بالغ الثقة والعذوبة، قدمها بتلقائية تناسب مقام البساط الأحمدي المفرود، بمدى المسافة الزمنية لكل حلقة مجهزة بهمة عالية وإحكام شديد ووفرة من المعلومات الضرورية، المعروفة والمجهولة على حد سواء، في نطاق المادة المحددة المعروضة، فقد آخى جماعاته المختارة من المغنين والموسيقيين ذوي الأزياء الإقليمية التقليدية المنوعة (أدلاء الخريطة الوطنية وبراهينها)، وفتح شهيتهم للكلام الفياض والبوح بالأسرار، واندمج فيهم، وهم أحبوه ووهبوه ألقًا فريدًا باحتوائهم إياه كمقابل لاحتوائه إياهم، وأما الإخراج، بقيادة قديرة لحشد الفنيين والمعاونين، فتمم الموضوع كله على أحسن الوجوه. 
كنا بحاجة إلى مثل هذا البرنامج المنتمي إلينا، كانتمائنا إلى مثله، لأنه يبصرنا ونبصره بعين واحدة، عين الذي ينظر في المرآة فيرى نفسه تفصيليًا، وحين قرر المصري الصميم عطا الله أن يغني حاضرنا، علنًا، من خلال فتح شبابيكنا المطلة على أحشاء المباني وخفاياها، باللغة المفتاحية العامة المنتشرة بيننا، والتي لا تفارقنا ولا نفارقها، كان غناؤه على الشاشة يرسم ظل حصائلنا الهامشية الموروثة من الغناء أمامها، ناصعًا ومضبوطًا كأنه متن المتون، وكان صدى الانسجام رائعًا!