رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«حلم الخلافة» ورأس «القائد إبراهيم»

الملمح الرئيسى الذى يجمع بين حكام الأسرة العلوية منذ الوالى محمد على حتى الملك فاروق هو «عيشة الخلفاء». فقد كان الخليفة العثمانى يمثل نموذجًا يحلم بموقعه كل من يجلس على كراسى الحكم فى أى من الولايات التابعة له، ومنها مصر. لم يكن الأمر مقصورًا بالنسبة لحكام الأسرة العلوية على مجرد الحياة المخملية التى يرفل فيها ساكن الباب العالى فى الآستانة، فقد نعموا طيلة فترة حكمهم بخيرات مصر، وأكلوا طعمتها. المسألة كانت أبعد من ذلك، وتتعلق بالاستيلاء على موقع الخليفة نفسه، والجلوس على كرسيه، والاستمتاع بمهمة إصدار فرمانات التولية للولاة التابعين لصاحب السلطة العلية.

لقد عانى محمد على أشد المعاناة أوائل فترة حكمه مصر من إرضاء ساكن الباب العالى فى الآستانة، الذى تلكأ فى منحه فرمان حكم مصر، وأخذ يتلاعب به بعدها، فأصدر فرمانًا جديدًا عام ١٨٠٦ بعزله من ولاية مصر وتوليته حكم «سالونيك» بعد ما يقرب من العام على جلوسه على كرسى حكم مصر ١٨٠٥، وهو الأمر الذى أغضب محمد على، لكنه كان يملك حينها الأدوات التى يلاعب بها السلطان، وعلى رأسها ورقة المشايخ، الذين جندهم فى صفه وجعلهم رأس حربته، وتمكن عبرهم من إزعاج دولة الخلافة، بسبب قدرتهم على حشد وتعبئة الأهالى ضد أى والٍ تحاول فرضه على مصر غير محمد على.

محمد على كان الأكثر حلمًا بوراثة موقع الخليفة، وترجمة الحلم النابليونى بتكوين إمبراطورية جديدة، تحل محل الإمبراطورية العثمانية، تكون قاعدتها مصر. كان الرجل الكبير يملك الحلم المزدوج بعيشة الخليفة وموقعه، وشاركه هذا الحلم- استثناءً بين ورثة حكمه- نجله إبراهيم باشا. الباشا «إبراهيم» هو قائد الجيش الذى أسسه محمد على، والذى استطاع تحقيق حلم محمد على فى مد نفوذه إلى ما وراء أراضى وادى النيل، حتى بات على أبواب الآستانة، عندها تدخلت الدول الأوروبية من أجل إحباط المشروع الذى رأوا فيه تهديدًا لأمن كل دول القارة. لقد أراد القائد العسكرى إسقاط خلافة الرجل المريض فى الآستانة، وتأسيس إمبراطورية جديدة أشد وأقوى.

وراثة دولة الخلافة مثّلت حلمًا من أحلام محمد على، لكنه بالنسبة لإبراهيم كان مشروعًا تحددت ملامحه فى رأسه خلال حربه للوهابيين فى نجد بالجزيرة العربية. الوهابية ظهرت كحركة إصلاحية على يد الشيخ محمد بن عبدالوهاب، أراد الرجل أن ينقى العقيدة الإسلامية مما لحق بها من انحرافات وبدع وخرافات، لكنه لم يرد لفكره أن يبقى فى الإطار الدعوى الإصلاحى، بل سعى من خلال التحالف الذى تم بينه وبين الأمير محمد بن سعود إلى تحويله إلى حركة تمهد لإقامة دولة تسيطر على الجزيرة العربية، وربما أيضًا ما وراءها، وهو أمر أقلق السلطان العثمانى بشدة، إذ وجد أن فكرة تختمر لتكوين إمبراطورية عربية وريثة للإمبراطورية العثمانية، فاشتبك فى قتال عجز فيه عن الانتصار، فما كان منه إلا أن استعان بواليه على مصر محمد على، فأرسل ولده «طوسون» على رأس حملة لمحاربة الوهابيين الذين باتوا يسيطرون على مكة والمدينة، لم تنجح فى محاصرة تمددهم، فما كان من الوالى إلا أن أرسل جيشًا بقيادة نجله الثانى «إبراهيم»، الذى نجح فى القضاء على الحركة، لكن مشروعًا نبت فى رأسه يترجم حلم أبيه بإنشاء إمبراطورية خلافة جديدة ترث الخلافة العثمانية، وتنجح فيما أخفق فيه الوهابيون.

تمكن «إبراهيم» باشا من القتال فى الشام والأناضول، وبات على أبواب الآستانة، فى هذه اللحظة وقفت ضده أوروبا. وقد نشر «عبدالرحمن الرافعى» فى كتابه «عصر محمد على» حوارًا دار بين القائد العسكرى والبارون «بوالكونت»، والأول يقف بجنوده فوق أرض الأناضول، لو أنك قرأته بالتفصيل سوف تخلص إلى أن فكرة إقامة خلافة وريثة للإمبراطورية العثمانية كانت تمثل مشروعًا تبناه نجل محمد على. عبّر «إبراهيم» باشا للبارون عن حزنه من الدول الأوروبية التى منعته من مواصلة الزحف نحو الآستانة ليسقط الإمبراطورية العثمانية، فقد كانت رغبته عارمة فى دخول عاصمة الخلافة، ليس من أجل الهدم، بل من أجل الإصلاح، وبناء حكومة جديدة قادرة على الاضطلاع بحكم الإمبراطورية، ولو فعلها فسيكون هو نفسه على رأس هذه الحكومة التى ستنتقل عاصمتها إلى القاهرة، وأشار إلى أن السكان على جانبى البوسفور والدردنيل يدعونه إلى المجىء لإحداث انقلاب يتم فى هدوء وسرعة يتخلصون فيه من السلطان محمود، وبرؤية نافذة قال «إبراهيم» باشا للبارون: «تقولون إنكم تبغون الدفاع عن تركيا وجعلها قوية، ولو تم هذا الانقلاب لكان من نتائجه بعث سلطنة قوية تقوم على أنقاض هذه السلطنة المفككة التى تحاولون عبثًا تأييدها، والتى ستحل يومًا بين أيديكم وتشكل لكم يومئذ مشاكل لا عداد لها».

كان الباشا واضح الهدف نافذ الرؤية. فقد كان يريد إقامة سلطنة خلافة جديدة تكون قاعدتها مصر، وقد عبر عن هدفه بصورة صريحة، حين قال للبارون: «إننى أبحث كثيرًا وأتساءل: لماذا تحقد الدول الأوروبية كل هذا الحقد على الأمم الإسلامية؟.. الأمة الإسلامية لا تريد حكم السلطان محمود، فبأى حق ترغمون هذه الأمة على ما لا تريده؟».

امتلك القائد «إبراهيم» صفاءً ذهنيًا مكنه من قراءة مآلات السلطنة التركية فى المستقبل، وأن مصيرها إلى التفكك، وهو ما حدث بالفعل مع انتهاء الحرب العالمية الأولى. ولا يخفى عليك أن نموذج الحكم التركى كان نموذجًا متضعضعًا لا محل لمفهوم الخلافة فيه إلا على مستوى الاسم أو الشكل، وقد أراد محمد على وولده وراثة الدولة المريضة وإقامة نموذج سياسى يتخذ من الخلافة شكلًا للسيطرة أكثر منها موضوعًا، لأن الخلافة وقتها فقدت عمليًا الكثير من معناها ومغزاها.