رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الثائر النبيل

تشابهت رحلة الطفولة ما بين كل من الحسن بن على وشقيقه الحسين، ولد «الحسين» سنة ٤ هجرية، أى بعد شقيقه الحسن بعام، ونَعِم بطفولة هانئة فى كنف جده النبى، صلى الله عليه وسلم. كان عمره ٧ سنوات عند وفاة جده ثم أمه. ومثل الحسن أيضًا عاش فى شبابه الفتنة التى نشبت أظافرها فى الأمة أواخر عصر عثمان، وفى حين كان رأى «الحسن» أن يترك أبوه «على» المدينة كلها ويخرج منها حتى ينكشف الأمر، وألا يقبل «على» الخلافة حين ضغط عليه الثوار ليحمل الأمر، رأى «الحسين» عكس ذلك، فـ«على» أبوه كان وحده القادر على إصلاح الدنيا بالدين، وقد كان «الحسين» يؤمن بهذه المعادلة أشد الإيمان، ويرى أن إملاءها فى الواقع يستحق بذل التضحيات أيًا كانت.. الخيار الأمثل بالنسبة للحسين كان الخيار الثورى الذى يستهدف اقتلاع الشرور من الحياة وإقامتها على قيم وأخلاقيات الدين، وقد التقى فى هذا الخط مع أبيه «على» الفارس النبيل الذى آمن بهذه المعادلة أيضًا كل الإيمان.

اختلفت شخصية «الحسين» تمامًا عن شخصية «الحسن»، فالأخير كان حكيمًا يؤمن بالإصلاح المتدرج، ولم يجد غضاضة فى التنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبى سفيان لبضع سنوات حقنًا لدماء المسلمين، وتهدئة الأوضاع المجهدة التى عاشها المسلمون منذ أواخر عصر عثمان، مع وعد بأن تعود إليه الخلافة بعد وفاة معاوية.. لام «الحسين» أخاه «الحسن» على هذا الرأى فلم يقبل منه، فقد كان الأخير يحسبها بالعقل، فى حين كان «الحسين» ثائرًا يحسبها بالإحساس، وقد صدق إحساسه بعد ذلك، حين اغتيل الحسن سنة ٤٩ هجرية، على يد زوجته جعدة بنت الأشعث التى دست له السم، ويتبنى البعض رأيًا يذهب إلى أن «معاوية» هو من أوعز إليها بذلك. 

أثبتت الأحداث صدق الإحساس الثورى للحسين، وبانت الأمور بشكل واضح حين سعى إلى تنفيذ وصية شقيقه الأكبر بأن يدفن إلى جوار جده النبى، صلى الله عليه وسلم، وكان «الحسن» قد استأذن أم المؤمنين عائشة فى ذلك فأذنت له، فلما توفى أراد شقيقه تنفيذ وصيته، فلم يمانع سعيد بن العاص، أمير المدينة، فى ذلك، لكن مروان بن الحكم جمع بنى أمية وشيعتهم ورفض ذلك، فأراد «الحسين» تحديهم، فقيل له: إن أخاك قال «إذا خفتم الفتنة فادفنونى فى مقابر المسلمين»، فانصاع «الحسين» ودفنه حيث أراد الله فى مقابر المسلمين.

لم يقبل «الثائر النبيل» مهادنة النظام الأموى، ورأى أن «معاوية» لا يقيم الدنيا على معادلة الدين، وصدق إحساسه الثورى من جديد، حين وجده يتخلى عن «الشورى» ويتجه إلى توريث ولده «يزيد» الحكم بقهر أبناء كبار الصحابة، مثل عبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، أو بإغراء من يقبل الإغراء منهم، ولم يكن لـ«الحسين» أن يقبل أيًا من الخيارين، رفض «الثائر» مبايعة «يزيد» على حياة عين أبيه معاوية رفضًا قاطعًا، وعندما واتته الفرصة للخروج ضده فعل، وكانت المحنة التى وقعت فى كربلاء، والتى قام فيها جنود يزيد بن معاوية بمقتلة عظيمة فى أهل بيت النبى، ليختموا بهذا المشهد البشع فصلًا من فصول الصراع بين العائلة الأموية التى دانت لها الدولة، والعائلة الهاشمية المدافعة عن الدين. 

لم يكن «الحسين»، رضى الله عنه، يحتكم- مثل أخيه الحسن- إلى الحسابات السياسية، وموازين القوة والضعف وهو يحدد خطواته، بل كان مسوقًا بإحساسه كثائر حالم بإقامة الدنيا على معادلة الدين.. لقد وصف معاوية بن أبى سفيان «الحسين» ذات يوم بأنه رجل «خفيف» ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه، ونصح ولده «يزيد» فى حالة خروج «الحسين» وظفره به أن يصفح عنه، فإن له رحمًا ماسة وحقًا عظيمًا، وقرابة من محمد، صلى الله عليه وسلم. وتظهر هذه المقولة كغيرها من المقولات التى تحاول تبرئة ساحة «معاوية» من الاجتهاد فى التخلص من أهل بيت النبى، بهدف تحسين صورته، وينسى كتّاب التراث والمؤرخون لهذه الفترة أن معاوية نفسه كان يهدد «الحسين» بشكل صريح حتى يأخذ منه البيعة لولده يزيد. فـ«ابن الأثير» يذكر فى «الكامل فى التاريخ» أن معاوية لقى «الحسين» خلال زيارة له إلى المدينة، فلما نظر إليه قال معاوية: لا مرحبًا ولا أهلًا، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه، فقال الحسين: مهلًا فإنى والله لست بأهل لهذه المقالة!، قال: بلى ولشر منها.

وقف «الحسين بن على» أمام باب خيمته فى كربلاء وحيدًا بعد أن انفض الناس من حوله قبل سويعات من استشهاده، وقال عبارته الشهيرة: «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصّوا بالبلاء قل الديانون»، إنها العبارة التى لخصت فلسفة الثائر النبيل عندما خرج ليواجه ما بدا له شديد الخطورة على مستقبل الأمة، والمتمثل فى الانتقال من عصر الخلافة الراشدة الذى أقام الدنيا على قيم الدين، إلى عصر الملك العضوض «الوراثى» الذى يقفز على قيم الدين من أجل الحصول على مغانم دنيوية.. انتهى الأمر بـ«الحسين» إلى أن يقف وحيدًا غريبًا فوق أرض لا يعرفها، ليدفع حياته ثمنًا لإيمانه بقضيته.

موقف العائلة الأموية من العائلة الهاشمية كان واضحًا، وأحسب أن الرأى الذى ذهب إليه الكثير من الفقهاء والمنظّرين إلى أن «الحسين» أخطأ حينما خرج إلى العراق محل نظر، فهم يذهبون إلى أن «الحسين» خرج على إمام غالب، ولم يأخذ فى الاعتبار موازين القوة والضعف، بين من اصطف خلفه وبين الأمويين، لأن «معاوية» نفسه سعى إلى التخلص من «الحسن» بعد أن تنازل له عن الخلافة، ودسّ له السم كما ذهب بعض المؤرخين، رغم أن الرجل تنازل وحقن الدم المسلم، واعتمد على حسابات عقلية دقيقة، ورغم ذلك لم يسلم من أذى الأمويين حيًا وميتًا.

شخصيات البشر تتباين، مثلما اختلفت شخصية «الحسن» عن شقيقه «الحسين»، رضى الله عنهما، لكن النتائج واحدة حين تُدار الأمور داخل قصور الحكم.. وأمر الله نافذ.