رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

روشتة إنقاذ «التجريبى» من أعراض الشيخوخة

إدارة فعالية ثقافية دولية تستلزم مجموعة كبيرة من الشروط، لعل أولها تلك القدرة على «التشبيك الثقافى» بين جهات ومؤسسات محلية وأخرى عربية وأجنبية، خاصة أننا فى عهد ثقافى وسياسى جديد يتجه إلى تحديث نفسه ومواكبة ضرورات العصر، ونأمل خيرًا فى وزيرة ثقافة مصر، الدكتورة نيفين الكيلانى، لوضع سياسات ثقافية جديدة تناسب متطلبات العصر الراهن وتواكب تغيراته الكبيرة، فالرهان على الثقافة هو رهان على تغيير آفات المجتمع الثلاث: التعصب الدينى، والجهل، وعدم قبول الآخر.

وليست هناك وصفة محددة أو خريطة يمكن عبرها الاهتداء لتلك التركيبة السحرية التى تصل بتلك الفعالية الثقافية أو المسرحية أو غيرهما إلى النجاح، لكن أهم ما فى الأمر أن تتوافق السياسات الثقافية التى تنتهجها أية فعالية مع السياسات الثقافية العامة، وأهداف الدولة، وأيضًا أهداف الفن نفسه.

لذا فهناك ضرورة لفتح حوار حول الدورة الأخيرة الــ٢٩ من مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى، من حيث: مستوى جودة العروض وبالتالى آلية اختيارها، ولجان المشاهدة، والسياسات الحاكمة للمهرجان، والدعم، وغيره، وذلك لأهميته كمهرجان مسرحى فاعل ومؤثر طوال تاريخه، منذ أول دورة رأسها الفنان القدير سعد أردش، ومن بعده الدكتور فوزى فهمى، مرورًا بكل الدورات حتى اليوم.

كنا نصفه بأنه نافذة نطل منها على جديد المسرح فى العالم، وكان له أثر كبير على جيل الشباب، حتى إن عددًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميين خطوا رسائلهم العلمية عن تأثير المهرجان على حركة المسرح المصرى، ومنهم مثلًا: د. حسام عطا، ود. محمد زعيمة، ود. محمد سمير الخطيب، ود. كمال عطية، وأسماء كثيرة أخرى.

لكن للأسف تضاءل هذا الأثر مع شيخوخة المهرجان، بسبب انتهاج نفس السياسات القديمة التى كانت تتبعها الإدارات القديمة، وصار المهرجان التجريبى بكل تاريخه الماضى على المحك، بسبب إعادة إنتاج لنظام عمل لم يعد صالحًا فى إدارة المهرجانات.

لقد تغير شكل العالم خلال السنوات الأخيرة، وتناقص الاهتمام العالمى بالثقافة والفنون، والتحول والتغير شمل كل شىء، لذا من المهم أن تتغير رؤانا لتساير أشكال التفكير الجديدة فى العالم، فلم يعد لنمط «البطل الفرد» وجود، المهرجان بطولة جماعية لا يمكن إنجازه بفرد واحد ولا فى شهور قليلة، المهرجان يحتاج إلى عمل متواصل على مدار العام، يعتمد على مسارات مختلفة يمكن لنا أن نجملها فى نقاط محددة:

١- العروض المشاركة:

الاكتفاء بالعروض المتاحة وتلك التى نسمع عنها فقط أو نشاهدها فى بعض المهرجانات الأخرى فكرة سيئة، مثلما حدث فى الدورة الأخيرة، التى شاركت فى مسابقتيها للعروض الكبيرة والقصيرة ١٢ دولة، منها ٧ دول عربية فى محور العروض الكبيرة، هى: تونس، والعراق، والكويت، وسوريا، والمغرب، ودولتان فى محور العروض القصيرة، هما ليبيا والإمارات، بالإضافة إلى الضيوف العرب من المسرحيين والمكرمين والمشاركين فى الفعاليات المختلفة وأيضًا رؤساء المهرجانات، علاوة على مشاركة ٦ دول أجنبية، هى: كندا، والنمسا، واليونان، وإيطاليا، والمكسيك، والولايات المتحدة.

لدينا إذن ١٢ عرضًا من ١١ دولة، منها ٤ عروض شاهدناها قبلًا فى مصر، منها: «وهم/ إيطاليا»، و«آخر ١٨ ثانية/ كندا»، اللذان قُدما فى مهرجان دولى آخر، لذا تعتبر هذه هى المرة الثانية لكل منهما فى مصر. نفس الأمر تكرر مع عرض اليونان «حوارات وثورة بين الماضى والحاضر»، الذى قدم من قبل فى مهرجان دولى آخر داخل مصر، وكذلك العرض التونسى «آخر مرة»، الذى قُدم فى مهرجان دولى ثالث يهتم بمسرح المرأة داخل مصر عام ٢٠٢١.. فماذا يعنى هذا الأمر غير إعادة تقديم لمنتجات قديمة فى صيغة جديدة لم تعد مقبولة؟

٢- سياسات البرمجة والمراكز الثقافية الأجنبية:

يعتمد التفكير القائم على تجميع العروض المسرحية حسب المتاح، لأننا مهرجان لا يدفع مقابلًا للعروض المسرحية العالمية التى يستقدمها، لذا يرضى بالمتاح، وهذا تفكير قديم، فالعالم الآن يعرف وظائف جديدة أصبحت لها فعاليتها وتأثيرها فى حركة المسرح والمهرجانات، مثل وظيفة «المبرمج المسرحى»، وهو بمثابة «قوميسير فنى» لديه معرفة بكل المهرجانات، وجديد العالم، والمواعيد، وأسعار الفرق ومستلزمات استقدامها.

قد يصعب تنفيذ ذلك هنا، لكن على الأقل يمكننا أداء نفس الوظيفة من خلال إيفاد أحد المسرحيين الفاعلين سنويًا إلى المهرجانات الكبيرة مثل «أفينيون» و«أدنبرة»، لاختيار بعض العروض التى تمثل تجارب ورؤى مسرحية جديدة، وإقامة «تشبيك ثقافى» حقيقى بيننا وبين المسرح الحقيقى فى العالم.. «أفينيون» مثلًا يقدم حوالى ٤٠ عرضًا فى مسابقته الرسمية، بالإضافة إلى حوالى ١٦٠ عرضًا على الهامش من كل دول العالم.

ومن خلال التحضيرات المستمرة والدءوبة طوال العام، يمكننا عقد شراكات وبروتوكولات مع المراكز الثقافية الأجنبية فى مصر، مثل «جوته» الألمانى، والإسبانى، والأمريكى، والإنجليزى، والإيطالى، لدعم المهرجان لوجستيًا، عبر تحمل تذاكر فرقها وإقاماتهم وأجورهم عند اشتراكهم فى المهرجان، وهذا يحدث فى مهرجانات خاصة داخل مصر، وليس بجديد على الحركة المسرحية المصرية، ومن خلاله يمكننا توفير ميزانيات هذه الفرق الكبيرة.

من داخل هذا الاقتراح، يمكننا عقد نفس الشراكات مع مؤسسات ثقافية عربية بنفس طريقة الدعم اللوجستى، عبر استقدام فرق عربية أو أجنبية والدفع لها، كما فعلت الهيئة العربية للمسرح فى عام ٢٠١٦، عندما دعمت المهرجان التجريبى لوجستيًا من خلال استقدام فرقة المغرب وتحمل مصاريفها.

وعليه ففكرة الدعم المادى وتوجيهه إلى الأجور غير مجدية ومثيرة للأسئلة كما حدث، خاصة إذا ما تعلق الأمر بمهرجان رسمى تصرف عليه الدولة وتخصص له ميزانية كبيرة فى ظل حالة الترشيد العامة بالعديد من المجالات.

٣- البعد الإفريقى:

رغم أن سياسات الدولة تتجه إلى الاهتمام بالعمق الإفريقى بسبب أهميته الكبرى، تجاهلته إدارة أكبر مهرجان مسرحى فى مصر، وعلى الرغم من أهمية التجارب المسرحية الإفريقية وخصوصيتها الفكرية وتعدد رؤاها الفنية، لم ندعُ دولة أو ضيفًا واحدًا من إفريقيا، سوى الدول العربية: تونس وليبيا والمغرب!

إقامة محور إفريقى مهم وفاعل وله مردوده الثقافى والسياسى، لكن طالما لا توجد سياسات ثقافية محددة ومرسومة، وطالما عوامل السرعة والزحمة والتفضيلات الشخصية هى المتحكمة، فالأمر يتم كيفما تم الاتفاق عليه، وتكون نتائجه كما رأينا، مثل انقلاب بعض ضيوف المهرجان عليه، ممن تمت دعوتهم، أو دفاعهم الذى يدين المهرجان أكثر مما يحميه، لكننا فى مصر كنقاد ومسرحيين ما يهمنا فى المقام الأول هو الحفاظ على كيان مصر الثقافى، الذى كان ومازال وسيظل مؤثرًا وفاعلًا فى المنطقة العربية كلها.

٤- اللحظة الحضارية الراهنة:

كما يقول الفيلسوف اليونانى هيراقليطس: «إنك لا تنزل للنهر مرتين» فالنهر متجدد بسبب سريان مياهه، هكذا هو العالم الآن مع ثورة المعلومات والاتصالات وعالم الميتافيرس وإنترنت الأشياء وبوادر الجيل التكنولوجى السادس الذى يعمل على استبدال الآلات بالبشر.

يجب أن ندرك أن العالم تغير ولم يعد كما كان، ثمة خرائط ترسم وسياسات تنفذ لتواكب حجم التغير المذهل، وعليه فالثقافات والفنون أصبحت لصيقة بشكل أكبر بالمجتمعات وهويتها، وبالتالى لم تعد العروض المسرحية تقنع بالأشكال الأرسطية وبمسارح العلب الإيطالية.

ثمة مواضيع جديدة وفضاءات عرض مختلفة وتجارب نفسية على الشم واللمس والتذوق، إلى آخره، وبناءً على ذلك، لماذا نتمسك بالتفكير القديم فى استقدام العروض بالجهد الذاتى أو بالأمر المباشر والوعود الشخصية.. إلخ؟ ما فائدة العمل المؤسساتى الذى تحاول المؤسسات الثقافية العمل به؟

وعليه فقد رأينا أن كل عروض المهرجان تُقدم داخل العلب الأسمنتية المغلقة، عروض تقليدية فى بنيتها ورؤاها، وهو ما أثاره النقاد فى كتاباتهم عن المهرجان، فى إشارة صريحة تارة وخفية أخرى عن ضعف هذه العروض وليس تقليديتها فقط، لن نتحدث هنا عن الكم، يكفينا الكيف ولكن أين هو ذلك الكيف؟

استدامة العمل طوال العام وليس قبل المهرجان بشهرين أو ثلاثة، وإيفاد ناقد أو اثنين إلى المهرجانات المسرحية فى العالم مثل: «أفينيون» و«أدنبرة» مثلًا، يمنحانا عروضًا قوية وملهمة وفارقة فى تأثيرها وعائدها الثقافى على شباب المسرحيين فى مصر.

هذا مع العلم أن تكلفة إيفاد ناقد أو اثنين طوال العام لن تؤثر على ميزانية المهرجان، ومن داخل هذه النقطة يمكن لنا الترحيب بالدعم اللوجستى والشراكات والتبادلات مع المؤسسات الثقافية المصرية والعربية وأيضًا المراكز الثقافية الأجنبية.

٥- تساؤلات ربما تكون غير مشروعة لدى البعض:

ــ اختيار دولة تونس كضيف شرف للمهرجان شىء جيد جدًا، فقط كنا نحتاج إلى اهتمام أكبر بالمسرح التونسى، من خلال محور فكرى يناقش اتجاهات ومسارات المشهد المسرحى هناك، وإصدار كتاب عن المسرح التونسى، يتضمن قضاياه الفنية والفكرية وأجياله الجديدة، إلى جانب التعريف بالمهرجانات هناك.. إلخ، وليس الاكتفاء بتكريم وتقديم عرضين تونسيين فقط.

- الإصدارات وما صاحبها من أسئلة كثيرة، أين هى؟ ولمن طبعت؟ وكم عدد النسخ المطبوعة منها؟ وأين ذهبت؟ لو أن تلك المطبوعات طرحت للبيع بسعر رمزى لكان ذلك أفضل، على الأقل كان يمكننا الحصول عليها.

ــ القائمة القصيرة فى مسابقة التأليف المسرحى للعروض القصيرة لماذا تحتوى على ٧٠ نصًا مسرحيًا؟! هذه هى المرة الأولى التى يتواجد فيها هذا الكم الكبير من النصوص داخل قائمة قصيرة لمسابقة ما.

ــ لماذا لا يوجد رد رسمى من المهرجان على الكتابات النقدية التى كتبها النقاد والصحفيون العرب ممن انتقدوا المهرجان وسياساته، رغم أنهم كانوا ضمن قائمة ضيوف المهرجان أم أن الأمر لا لزوم له؟

ــ هل يصح فى أى مهرجان أن تكون لجنة المشاهدة هى نفسها لجنة التحكيم؟!

ــ هل يصح أن يكون عدد أعضاء لجنة التحكيم فى بعض المسابقات عددًا زوجيًا؟! كيف حلوا فكرة التصويت؟ ماذا لو رفض اثنان مشاركة عرض ما، بينما وافق اثنان آخران؟! هذا يخالف أعراف لجان التحكيم فى المهرجانات عمومًا.

هذه مجرد تساؤلات قد تسفر الأيام المقبلة عن إجابة لها، وقد لا نجد تلك الإجابة، لكن فى كل الأحوال هذه هى مهنة النقد التى تتبنى المغاير والمختلف من الأفكار التى تدفع بحركتنا المسرحية للأمام، وترفض فى مقابل ذلك كل الأفكار البالية التى تجاوزها الحاضر.