رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

احتفالية العندليب 5

د. ياسمين فراج تكتب: التحليل الموسيقى لرحلة العندليب

ياسمين فراج
ياسمين فراج

غاب «عبدالغنى السيد» فنال عبدالحليم أول فرصة فى حياته للغناء كبديل له

غنى «العهد الجديد» بعد الثورة بأسابيع وكانت «المركبة عدت» آخر أغانيه الوطنية بعد إعادة افتتاح القناة

قدّم ٧٠ أغنية وطنية وكان أول من تغنى باسم جمال عبدالناصر فى «إحنا الشعب»

ونحن فى العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين أصبحت الغالبية من شباب وأطفال مصر والوطن العربى لا يعرفون الكثير عن أعلام الفن والثقافة فى الأزمنة السابقة عليهم، فهؤلاء هم جيل السوشيال ميديا التى أتاحت حرية الاختيار لما يسمعه أو يراه جيل الإنترنت والسماوات المفتوحة، فلم تعد محطات الإذاعات أو القنوات المحلية لأى دولة هى التى يلتف حولها أفراد الأسرة الواحدة، التى كانت تفرض نمطًا محددًا من الفن والثقافة تستطيع إلى حد كبير توحيد الجموع. وفى ظل هذه الحرية غير المشروطة التى فُرضت على الأجيال المعاصرة علينا أن نلقى الضوء على بعض أعلام الفن والثقافة الذين شكلوا ذاكرة الوطن من خلال فنهم لتتعرف عليهم الأجيال المعاصرة من الشباب والطلائع. 

واحدٌ من الأسماء المهمة فى تاريخ الموسيقى والغناء كان عبدالحليم على شبانة الشهير بعبدالحليم حافظ، هذا الشاب الريفى الذى ولد فى الحادى والعشرين من يونيو عام ١٩٢٩ فى قرية الحلوات بمحافظة الشرقية، والذى عشق الموسيقى منذ نعومة أظافره ثم أصبح أيقونة للأغنية الشبابية فى فترة الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، وفى السطور التالية سنستعرض المراحل الموسيقية التى مر بها عبدالحليم حافظ خلال مسيرته الفنية القصيرة.

 التكوين الموسيقي 

كان عبدالحليم أصغر أشقائه الثلاثة وتعلق بالموسيقى منذ طفولته بسبب سماعه عزف وغناء شقيقه الأكبر إسماعيل شبانة، الذى كان يعمل مدرسًا للموسيقى فى وزارة التربية ومطربًا فى الإذاعة، وهو ما أسهم فى تربيته السمعية، فأصبحت نغماته فى الغناء منضبطة، وتجلى ذلك أثناء دراسته فى كتّاب الشيخ أحمد وتجويده القرآن، ثم التحاقه بالنشاط الموسيقى بالمدرسة الابتدائية التى أصبح فيها رئيسًا لفرقة الأناشيد. 

فى المدرسة الداخلية التى التحق بها عبدالحليم بعد ذلك انضم إلى الفرقة الموسيقية وتعلم العزف على آلة النفخ الخشبية الأبوا، وهو ما أضاف إلى حليم مهارة جديدة وهى انضباط النَفَس أثناء العزف وبطبيعة الحال أثناء الغناء، وقد استمر فى العزف على هذه الآلة حتى مرحلة شبابه الأولى.

التحق عبدالحليم حافظ فى صباه بمعهد الموسيقى الشرقية قسم التلحين عام ١٩٤٣، وهناك التقى كمال الطويل الذى كان فى قسم الغناء آنذاك، وكانت لزمالتهما معًا فى الدراسة بالغ الأثر فى حياة عبدالحليم الفنية الاحترافية فيما بعد. وفى هذا المعهد تعلم علوم الموسيقى بدءًا من قراءة النوتة وكتابتها وانتهاءً بقيادة الفرقة والتلحين والتوزيع الموسيقى، وهو ما مكّنه من وضع بصماته فيما بعد على تكوين فرقته الموسيقية وتوزيع عزف الآلات فى أغنياته، خاصة فى المراحل الأخيرة من حياته الفنية.

ضربة الحظ 

عام ١٩٥٠، التحق عبدالحليم شبانة بفرقة الإذاعة الموسيقية كعازف لآلة الأبوا، ولكن عام ١٩٥١ شهد تحولًا فى مسار حياة حليم الفنية، فالرواية الأقرب إلى الصحة تقول إن عبدالحليم كان عازفًا فى الفرقة التى تسجل أغنية إذاعية للمطرب عبدالغنى السيد، والتى كانت من ألحان الملحن الشاب كمال الطويل، وعند تغيب عبدالغنى السيد عن تسجيل الأغنية طلب الطويل من صديقه وزميل الدراسة عبدالحليم أن يغنى الأغنية بدلًا من عبدالغنى السيد، وفوجئ الجميع بأدائه المميز لغناء الأغنية، ولفت صوته اهتمام مدير الإذاعة آنذاك "فهمى عمر"، الذى دعاه إلى منزله فيما بعد ليُعرفه على مجدى العمروسى والإذاعى الكبير آنذاك حافظ عبدالوهاب، وقد أشار عليه الأخير بتقديمه فى ركن الهواة كصوت جديد ومنحه اسمه ليقدَّم به فأصبح «عبدالحليم حافظ».

فى نفس العام لحن كمال الطويل لعبدالحليم حافظ قصيدة بعنوان "لقاء" من أشعار صلاح عبدالصبور. خلال تواجد عبدالحليم فى الإذاعة تعرف بالملحن الشاب محمد الموجى، الذى لحن له خلال عامى ١٩٥٢ و١٩٥٣ أغنيتى "يا حلو يا أسمر" و"صافينى مرة"، وكلاهما من أشعار سمير محجوب وتم تسجيلهما للإذاعة.

فى يونيو ١٩٥٣، كانت ضربة الحظ الرئيسية فى حياة عبدالحليم الفنية، حيث كانت أولى مشاركاته فى حفل أضواء المدينة بحديقة الأندلس، الذى كان أول احتفال رسمى بإعلان الجمهورية، وقدمه يوسف وهبى بهذه الكلمات: "أزف لكم بشرى ميلاد الجمهورية والمطرب عبدالحليم".

وقدم عبدالحليم فى هذا الحفل أغنيتين هما: «صافينى مرة، وعلى قد الشوق». ومن المفارقات أن استقبال الجمهور لعبدالحليم فى هذا الحفل كان عظيمًا، فى حين أنه فى بداية نفس العام كانت أولى حفلاته على الإطلاق على المسرح القومى فى الإسكندرية، وغنى فيها: "صافينى مرة، ويا حلو يا أسمر"، ورفض الجمهور صوته وأغانيه وطالبه بأن يغنى لعبدالوهاب، لكنه رفض وترك المسرح.

وهذه الواقعة تدل على أن تقديم عبدالحليم حافظ على أنه مطرب النظام الجمهورى فى مصر خدمه ودشنه كمطرب لهذا النظام السياسى الجديد، وهى قوة الدفع التى استمر بها عبدالحليم حتى نهاية السبعينيات.

التطور الموسيقي في اغنياته 

بلغ عدد الأغنيات الوطنية فى رصيد عبدالحليم الغنائى أكثر من سبعين أغنية، بدأها عام ١٩٥٢ وأنهاها عام ١٩٧٥. 

فى ١٩٥٢، كان عبدالحليم أول مطرب شاب يقدم أغنيات للنظام الجمهورى الجديد فى مصر، حيث قدم ثلاث أغنيات أولاها: "نشيد العهد الجديد" بمشاركة المطربة عصمت عبدالعليم، من أشعار: محمود عبدالحى، لحن: عبدالحميد توفيق ذكى، وقد تضمنت كلماتها شعار "الاتحاد والنظام والعمل" الذى نادى به آنذاك الرئيس محمد نجيب، واستخدم فى هذا النشيد آلات النفخ النحاسى والخشبى مع مجموعة الكمنجات، وقد ظهرت بوليفونية لحنية فى أبسط صورها.

وأغنية "وفاء"، أشعار محمد حلاوة، لحن: محمد الموجى. أغنية "بدلتى الزرقاء"، أشعار: عبدالفتاح مصطفى، لحن: عبدالحميد توفيق ذكى. "ثورتنا المصرية"، أشعار: مأمون الشناوى، لحن: رءوف ذهنى.

اتسمت هذه المجموعة من الأغنيات: بالزمن البطىء نسبيًا الذى يتيح مساحة لتطريب المؤدى، الاعتماد على الفرقة الموسيقية العربية التقليدية بآلات التخت العربى "مجموعة الكمنجات، القانون، العود، الناى، الرق"، يقتصر دور الموسيقى على مساندة المطرب أثناء الغناء وعزف الفواصل الموسيقية فى المقدمة وبين الكوبليهات، إذا وجد الكورال فيقتصر دوره على ترديد أجزاء شعرية مما يغنيها عبدالحليم. 

كان عبدالحليم حافظ أول مَن تغنى باسم الرئيس جمال عبدالناصر، وكان ذلك فى أغنية "إحنا الشعب" أشعار: صلاح جاهين، لحن: كمال الطويل، بعد اختياره رئيسًا فى استفتاء ١٩٥٦، ثم قلده كبار نجوم الغناء بذكر اسم الرئيس فى أغنياتهم مثل: أم كلثوم "يا جمال يا مثال الوطنية"، محمد عبدالوهاب "ناصر كلنا بنحبك"، فريد الأطرش "يا مرحب بك يا جمال، وحبيبنا ناصر"، صباح «أنا شفت جمال".

قُدر عدد الأغنيات الوطنية فى الفترة من ١٩٥٢ إلى ١٩٦٧ بحوالى ستين أغنية، من أشهرها: بالأحضان، صورة، المسئولية، بستان الاشتراكية، حكاية شعب- التى غناها فى حفل أضواء المدينة بأسوان للاحتفال بوضع حجر أساس السد العالى- أهلًا بالمعارك، وغيرها.. ثلاث وعشرون أغنية منها لحن كمال الطويل، بينما لحّن الموجى تسع أغنيات، لحن بليغ حمدى سبع أغنيات، من أبرزها "عدى النهار"، وست أغنيات من ألحان محمد عبدالوهاب. 

اتسمت الأغنيات الوطنية لعبدالحليم فى هذه المرحلة: باستخدام الإيقاعات الشعبية المصرية مثل؛ الملفوف، البمب أو الفلاحى، المقسوم، المصمودى. الفرقة الموسيقية العربية الكبيرة التى تعتمد على آلات التخت المصرى تصاحب غناء المطرب وتعزف الفواصل والمقدمات الموسيقية فقط. ظهور أعداد كبيرة من الكورال المشترك الذى تُخصَص له أجزاء شعرية له بخلاف ما يغنيه المطرب وكأنهم لسان حال الشعب المصرى.

فى المرحلة من ١٩٥٢ حتى ١٩٦٧ قبل الهزيمة كان أبرز شعراء الأغنية الوطنية لعبدالحليم هو صلاح جاهين، وبعد هزيمة ٦٧ وتوقف جاهين عن الكتابة اتجه عبدالحليم للشاعر عبدالرحمن الأبنودى، الذى كتب له أغنيات: عدى النهار، أحلف بسماها، إنذار، راية العرب، بالدم، اضرب، بركان الغضب، ابنك يقولك يا بطل.

اتسمت الأغنيات الوطنية لعبدالحليم فى هذه المرحلة باختفاء اسم الزعيم من أشعار الأغنيات الوطنية، أصبحت أشعار الأغنيات مليئة بالحماس والقوة لشحذ الهمم والتهديد والوعيد للعدو مثل أغنية "بالدم"، استمرار استخدام الإيقاعات الشعبية المصرية، ظهور التوزيع الموسيقى فى أغنيات عبدالحليم الوطنية على يد على إسماعيل، ودخول آلات النفخ النحاسى والخشبى لإضفاء الحماسة على الأغنيات، وجود أساسى للكورال المشترك فى أغلب الأغنيات إما لترديد أجزاء غنائية يغنيها المطرب أو بأجزاء شعرية مخصصة للكورال.

بعد انتصارات أكتوبر المجيدة ١٩٧٣، قدم حليم عددًا من الأغنيات الوطنية هى: لفى البلاد يا صبية، أشعار: محسن الخياط، لحن: محمد الموجى- صباح الخير يا سينا، أشعار: عبدالرحمن الأبنودى، لحن: كمال الطويل.

وفى أول احتفال بالنصر عام ١٩٧٤، غنى عبدالحليم «عاش اللى قال»، أشعار: محمد حمزة، لحن: بليغ حمدى. وفى عام ١٩٧٥، وبعد افتتاح قناة السويس أمام الملاحة العالمية غنى "النجمة مالت ع القمر" أشعار: محسن الخياط، لحن محمد الموجى، و"المركبة عدت"، أشعار: مصطفى الضمرانى، لحن: محمد عبدالوهاب.

من أبرز سمات الأغنية الوطنية الحليمية فى هذه المرحلة: دخول بعض آلات الباند الغربى على الفرقة الموسيقية العربية الكبيرة، وكانت هذه الآلات "الأورج، ليد جيتار، الساكسفون"، إلى جانب آلة الأكورديون، مع الاحتفاظ بالإيقاعات المصرية، والكورال المشترك.

رحل عبدالحليم بجسده ولكنه ترك لنا إرثًا من الأغنيات التى وثقت الإنجازات والتغيرات السياسية فى مصر عبر ما يقرب من ربع قرن.

أستاذ بأكاديمية الفنون ومؤرخة موسيقية