رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جرس الفسحة ضرب ضرب

رحم الله الشاعر العبقرى صلاح جاهين الذى كتب أغنية جرس الفسحة، حيث لخّص فيها دور المدرسة بكلمات تقول "الحصة للقراية، والفسحة للهواية وللنشاط المدرسى". تلك كانت هى المدرسة، وكان هذا هو دورها الذى تربينا عليه بين علم نتلقاه وهواية نمارسها. وفى هذا أذكر بالفضل- كما يذكر معظمكم- مدرسين أفاضل كانوا يكتشفون المواهب ويصقلون الهواية ويرعون ملامح النبوغ.           
بفضل هذه النوعية من المدرسين وبسبب اهتمام المدرسة بالهوايات ظهر على الساحة نجوم كثر فى مجالات عديدة. أذكر شخصيًا فى هذا الشأن مدرسًا درّس لى فى المرحلة الابتدائية اسمه جودة القط، قدمنى فى الإذاعة المدرسية فعلّمنى الجرأة فى مخاطبة الجمهور حين دفع بى لأدير الإذاعة المدرسية. وفى المرحلة الإعدادية رزقنى الله بمدرس للغة العربية- توفاه الله قبل سنوات- اسمه محمد عطا، كان صاحب فضل كبير، إذ شجعنى على خوض مسابقة الإلقاء الشعرى ودرّبنى على الأداء الدقيق للشعر الفصيح وتذوق المعانى والأبيات.                                                                                                  
وخلال المرحلة الثانوية كنت محظوظًا بمدير مدرسة بدرجة فنان اسمه محمود عمران، اهتم بالأنشطة المدرسية وأنفق فيها وقتًا كبيرًا وجهدًا أكبر. سمعنى يومًا ألقى قصيدة فى الإذاعة المدرسية، وكانت قصيدة للشاعر فاروق جويدة عن الانتفاضة الفلسطينية عنوانها "ملعون يا سيف أخى". فطلب منى أن أعيد القصيدة كاملة- على طولها-  ثم أخذ منى الميكروفون مشجعًا ومطالبًا بأن أشارك بها فى مسابقة الإلقاء المسرحى الشعرى، واستقدم لى مخرجًا من الثقافة الجماهيرية ليدربني قبل خوض المنافسة. لم أخذل أستاذى، فقد حصدت المركز الثانى على مستوى الجمهورية. كما شكّل ذات الرجل فريقًا للصحافة أنجزنا من خلاله مجلة مطبوعة، مازلت أحتفظ بنسخة منها إلى اليوم، قمنا خلالها بمحاورة علية القوم فى محافظتنا بما فيهم محافظ الإقليم.                                                          
حرص الرجل أيضًا أن  يقدم عرضًا مسرحيًا ومنحونى فيه دور البطولة، ولكننى للأسف لم أكن موفقًا كممثل، فيوم العرض الختامى غلبنى الضحك خلال عرض تراجيدى يحكى فصلًا لكفاح المصريين عبر قصة البطل سليمان الحلبى، إذ انهار كالوس المسرح فتوقف صوت المخرج الذى كان يقوم بدور الملقن أيضًا، ساعتها- وبعقلية مراهق لا يقدر المسئولية- تخيلت شكل هذا المخرج شديد السمنة ملقى أرضًا وزملائي ومدرسّى يحاولون النهوض به ليواصل مهمته. ولكننى عدت إلى تقمص الشخصية حين صاح مدير المدرسة طالبًا منى أن أستدير بحيث لا أواجه الجمهور ضاحكًا فى مشهد تراجيدى، وحين سمعت صوت المخرج مصرًا على توجيهنا بينما يحاولون النهوض به.                                         
وفى ذكرى نصر أكتوبر المجيد، استقدم الرجل فرقة موسيقى عسكرية وطاف طلاب المدرسة على إيقاعاتها شوارع مدينتنا فى خطوة منتظمة بزى المدرسة العسكرى، بينما كلفنى بركوب "الحنطور"، مخاطبًا الجماهير- المحتشدة على جانبى الطريق- عبر مكبر صوت وضعوه بجوارى مقلدًا فيه ما كنا نشهده حينها من عروض تخرج الكليات العسكرية.                                                                 
استعدت كل تلك الذكريات وغيرها مما لا يتسع المجال لسرده وأنا ذاهب لتلبية دعوة مشكورة من صديقى القديم محمد يوسف، والذى يتولى الآن إدارة إحدى مدارس اللغات بمنطقة هضبة الأهرام. استأجرت إدارة المدرسة مسرحًا كبيرًا متميزًا امتلأ عن آخره بأولياء الأمور والطلاب غير المشاركين فى العروض. في الحقيقة، أعجبنى جدًا حسن تنظيم الفقرات واستعراضات التلاميذ وأزياء المشاركين فى العروض وحسن اختيار الأغنيات التى كانت بين الوطنى والوصفى والدينى، وكانت كلها أغنيات مبهجة زاد من رونقها استعراضات متميزة تناسب أعمار الطلاب وتستعرض مواهبهم المختلفة، حتى أنهم أشركوا فى إحداها طفلين من الموهوبين فى كرة القدم فقدموا فاصلًا من المهارات.                                                                                                                                                       ثم جاء موعد العرض المسرحى فاكتشفت أنهما عرضان، وحين شاهدتهما زاد احترامى لإدارة تلك المدرسة، وسعادتى أننى لبيت دعوة مديرها. إذ حمل العرض الأول اسم "قبل أن نبدأ"، ودارت قصته حول مؤلف العرض الذى تأخر فى تسليم العرض المتفق عليه، لأنه لم يستطع أن يكتب عرضًا كوميديًا كما طلبوا منه بسبب أحداث العدوان على غزة. وحين جاءهم معتذرًا عن عدم المشاركة، طلب منه مدير المدرسة أن يكون محور احتفالهم هذا العام هو تعريف التلاميذ بأبعاد القضية الفلسطينية، من خلال تكليف فريق الإذاعة المدرسية بالبحث فى تاريخها وحاضرها ومستقبلها والدور المصرى الجاد الساعى لحلها.                           وبالفعل قاموا بتصوير لقاءات مع شخصيات عامة مثل أستاذ التاريخ د. جمال شقرة، والمهندس محمد عصمت، والناقد الفنى محمود قاسم الذى استعرض أهم الأعمال الفنية التى تناولت قضية العرب الأولى، وعرفت من مدير المدرسة أنهم تواصلوا أيضًا مع د. سمير فرج والشاعر الكبير جويدة، لكن ضيق الوقت لم يمكّنهم من إتمام التصوير، خرج العرض بشكل فنى احترافى جمع بين الوثائقى والدرامى. ثم اختتم العرض بأغنية رائعة لحنًا وأداء وكلمات، يقول مطلعها: خف الصراخ يا جدع دى الدنيا مش حاسة/ وانبش بإيدك ركام قُوم طلّع الجثة/ طبطب على اللى انجرح قول بكره جاى لسّه/ ناخد بتار الشهيد ونكمّل القصة/ خلى الوجود ينبهر وده جزء م الحصة.                                                           
وبعد هذا العرض الذى أبكى الحضور جميعًا، جاء عرض آخر ولكنه كوميدى هذه المرة، تحدث عن وسائل التواصل وتأثيراتها السلبية لدرجة تدميرها العلاقات الاجتماعية داخل أسرة مصرية لا يعرف فيها الأب شيئًا عن أولاده. المهم أننى صادفت فى الحفل عددًا من الشخصيات العامة، كان من بينهم الخبير التربوى عادل عثمان، وكيل وزارة التعليم السابق، حيث تحدثنا عن دور النشاط المدرسى فى الارتقاء بالعملية التعليمية، كما سعدت أيضًا بلقاء الإعلامى الكبير محمود التونى، واقترحت عليه أن تقوم المتحدة بإنتاج برنامج أو تنظيم مسابقة تعيد المسرح المدرسى لمكانته، وتقوم من خلالها باكتشاف المواهب ومكافأة المدارس المتميزة في هذا المجال.                                                                 
تحية لإدارة هذه المدرسة التى ذكرتنا بالدور التربوى للمؤسسة التعليمية، ونرجو أن تعاود وزارة التعليم فى الحكومة الجديدة الاهتمام بمحور النشاط وصقل المواهب، فمبلغ ظنى أن تلميذًا مارس هواية فى سنوات مراهقته لن يقع فريسة لتضليل إرهابيين مهما بذلوا معه من جهود، كما أنه لن يقدم على تقديم فن هابط إذا احترفه يومًا، وإن بقى مجرد متابع فإنه سيتذوق الفن الراقي وسيميز بين الخبيث منه والطيب.