رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دعانى لبيته «2»

ماذا لو أننى أكملت معها الشوطين الأخيرين لها من الطواف؟، بعد أن أنهيت الشوط السابع من حركتى حول الكعبة، لا أستطيع أن أقول طوافى، فما كان من حركتى حول الكعبة بطواف، لكنه مجرد حركة عشوائية خلت من السكينة وامتلأت بالخوف والوجل.. كل خلاياى تستغيث.. أنقذنى أنقذنى، أرفع وجهى للسماء، أحاول التقاط أنفاسى، أسأله الستر والسلامة ولدىّ يقين بأن هذا لا يرضيه، آلاف الأجساد المتزاحمة، من يردد أدعية وابتهالات ومن يقرأ آيات من القرآن كأننا فى حلبة مسابقة، من يقترب أكثر من الكعبة، من يلمسها، من يضع يده على حجرها الأسود، من يصل إليها يتمركز بجسده وكفيه ويستحوذ على موقعه يدافع عنه بمنكبيه، لا أحد يراعى أحدًا أو يهتم بمن يجاوره، نفسى.. نفسى..، بلا تدبر، استجب لى أنا، انظر لى، أنا، أنا، أنا.

وأنا أيضًا فى القطيع لا أرى سواى ورغبتى فى الخروج والنجاة، تتلاعب بى كل المخاوف والهواجس وسط أجساد أطول منى قامة وأضخم كتلة، وأنا أتخبط ولولا بقايا من اتزان، ولولا يقينى بأنه موجود وأنه من دعانى لبكيت كطفلة تاهت من والدها فى سوق قرية لا تعرفها.

غارقة فى تيهى وجدتها تضع يدها على كتفى، سيدة ستينية، وربما أكبر، تستند على عصا، يتألم وجهها من حركتها، لمرض دائم أو إصابة طارئة، باستنادها على كتفى صارت تحمى ظهرى من التدافع الفجائى من الخلف للراغبين فى السبق. تأخذ خطواتى إيقاع خطواتها المجهد، المتألم، يصل لى صوت دعائها وبكائها فلا أستطيع الالتفات لرؤية وجهها، أربت على يدها التى تستند على كتفى اليسرى وهى تسير على يمينى، لم ألمس يدها المغطاة بطرف خمارها الكبير، يضيق الخناق عند علامة بداية الطواف، فى هذه المنطقة يقع أكبر تدافع حيث يختلط من يبدأ الدخول فى الطواف مع من يكمل الطواف مع من أنهى طوافه ويريد الخروج من صحن الكعبة، هذه أضيق نقطة فى عنق الزجاجة، كما أن الجميع يحرص على الإشارة للكعبة بالكف اليمنى فتجد آلاف الأذرع قد ارتفعت ومالت فى الاتجاه الأيسر نحو الكعبة. بعد عبور الخط الأخضر، نبدأ شوطًا جديدًا، التفت بربع وجه للسيدة التى أخمن أنها إيرانية من الكلمات المكتوبة على خمارها بحروف عربية، لكن لا أستطيع فهم معناها، أشير لها برقم بأصابعى الأربعة، إنه الشوط الرابع لى، تبتسم وتقبل كتفى، ونكمل دوراننا لشوط وشوط وشوط، أصل إلى نقطة البداية والنهاية، أخبرها بالإشارة أننى انتهيت، ترفع من يدها إصبعين، أى بقى لها شوطان، ظننت أنها ستنتهى معى، أكملت الحركة قليلًا، هل أطوف معها الشوطين؟ لم أستطع، حدثت نفسى بأنها حتمًا ستجد من تستند عليه. 

اعتذرت لها دون كلمات، تفهمت، وابتسمت لى، شكرتها، وخرجت وأنا غير راضية عن نفسى، ماذا لو أكملت معها الشوطين؟ لقد أرسلها الله لى، هى اتكأت على كتفى، وأنا احتميت بجسدها تمامًا كما كنت مع أمى فى حجتى السابقة، لماذا لم أكمل معها الشوطين؟ حتمًا ستجد من يساعدها، لماذا فررت؟ حتى ركعتا ما بعد الطواف لم أصلهما، لكن بقية من أدب وإكبار مغلفين بثقل وحزن جعلتنى أتحرك للخلف بشكل عكسى حتى لا أعطى ظهرى للكعبة المشرفة، توجهت نحو المسعى والسؤال المسيطر علىّ: ما هذا؟

هل سرت يومًا فى حقل ذرة؟ فى حقل قصب؟ هل حاولت المرور بين السيقان والأوراق المتداخلة؟ هذا ليس مشهدًا فى أفلام الكائنات الفضائية، أو الزومبى، هذا مشهد فى أقدس بقعة فى الأرض، أنا محاطة بمن يباهى الله به ملائكته، فى هذه اللحظات الطويلة الثقيلة، لم يكن هناك أى ملائكة.. هناك أجساد تتحرك ميكانيكيًا، دون وعى، لأنه إذا حدث وعى سيتوقف الكل عن الحركة، سيتجمد المشهد، يثبت الكادر، كى نفحص ونتأمل فيما نفعل، هذه حركة عشوائية تبديد للطاقة الكونية، تضييع للسنن الكونية، هذه الحركة بهذا الحجم الضخم تزيد من فوضى العالم، أضع يدى على فمى وأقول لنفسى اسكتى، أريد أن أكبل يدى وأقول لا تكتبى، أنت لا تعرفين أحلام الملايين، أقصى أمنيات المسلم فى كل مكان أن يزور البيت الحرام، أن يرى الكعبة، أن يكون ضيفًا للرحمن، أنت لا تعرفين أحلام الخلاص، كم الدعوات، كم الرجاء، لا تفسدى تفسير من لا يملكون سوى الحلم، لا تعكرى صفاء النبع الذى يرويهم، لا تسدى باب الأمل.

أدافع عن نفسى.. أنا أعرف، وما من روح إلا وتستجيب لنداء إبراهيم، ما من روح إلا وتنجذب فطريًا للطواف حول البيت، الطواف حالة كونية، كل الكون بمخلوقاته يقوم بالطواف من أصغر عناصر الذرة حتى أكبر المجرات، الإلكترونات تطوف حول النواة، كذلك الأرض تطوف حول محورها والكواكب حول الشمس وكذلك تطوف المجرات.

وحينما يطوف الإنسان حول الكعبة تنهار الأنا فيه، هذه الأنا والذاتية التى تحول بينه وبين الطواف الدائم كباقى الموجودات. إن شرط الطواف أن تنهار الأنا كى تجد الروح لذاتها مخرجًا ومعراجًا نحو النور الإلهى «الله نور السماوات والأرض»، الهدف من الطواف مساعدة الجسد فى التناغم مع حركة وذبذبات الكون، فتساعده فى التخلص من شدة إحساسه بذاته، بماديته وشيئيته، وتساعده فى التحرر من ثقله وحمولته والتحليق عاليًا.

الطواف هو جسر السكينة والسلام، لكن كثيرًا منا بما يجد من تدافع وازدحام حول الكعبة، تضيع منه السكينة والسلام، بما يوجب أن نفكر ونتدبر كل ما نقوم به من أفعال، فربما صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش، ورب حاج ليس له من حجه إلا التدافع والتزاحم.

.. وللمشاهدات بقية.