رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحكيم.. وجدوى الكتابة

كثيرًا ما نتابع فى العديد من المناسبات التى تحتفى بدور «أهل إبداع الكلمة» فى كل أشكالها عبر كل وسائط الميديا، نراهم يرددون ويؤكدون مسئولية ودور الكلمة بكل تصنيفاتها وتوجهاتها وأدوارها فى تشكيل وجدان وعقل وثقافة المواطن، يؤكدون أنهم ليسوا فى حاجة لملاحقة الأجهزة الرقابية لهم، وأنهم يمتلكون «فلاتر» خاصة تستطيع تنقية خطابهم للمجتمع والناس من الشوائب والرذائل، إلا أننا وللأسف نطالع عبر العديد من منافذ الكلمة والإبداع وفى بعض الصحف التى لا يدرك كتابها قيمة الكلمة ومدى تأثيرها الكثير من التجاوزات القيمية والمهنية، فأحالوا دنيانا إلى مساحات قبح من شأنها أن تقلص لدى الناس فرص التقاط الأنفاس للعيش فى سلام والرؤية ولو من بعيد لمناطق الأمل.
معلوم أن الكلمة فى فحواها ودورها رسالة، وإذا فقدت الإشارة إلى جدية الراسل، باتت هرطقة وهزلًا فى زمن وظرف تاريخى لا يحتمل سوى المضمون الصادق.. إن الكلمة الصادقة تاج أمان كل كاتب، والكلمة الكاذبة الهزلية تشين وتقبح مطلقها، وما أكثر ضحايا لَى عنق الكلمة أو تلوينها، وما أقل فرسان الكلمة الجادة. 
والحديث عن القيم والضمير عبر الأزمان حديث ممتد ومتواصل جاء فى رسالات الرسل وعبر آيات وقصص الكتب السماوية وأحاديث الأنبياء.. وأيضًا عبر أشعار الأولين والمحدثين وفنون القدامى والمجددين وإبداعاتهم.. وتظل الكلمة بما تشكل من لغة تواصل حية وسريعة فى مقدمة الأسلحة النافذة فى تحريك الضمائر وبناء القيم.. 
فى أحيان كثيرة يؤيد أهل الكتابة والرأى ماخلص إليه الكاتب الكبير «توفيق الحكيم» فى نظرته اليائسة من جدوى الكتابة التى عبر عنها عندما سأله أحدهم «لماذا تكتب؟»، قال: «أنا لا أكتب إلا لهدف واحد هو دفع القارئ للتفكير.. وبعد مائة كتاب.. أعتقد أن أعمالى غير مجدية»..
ولكن برغم هذه النظرة المتشائمة ظل يكتب ويبدع ويضيف وينتقد ويطور ويفكر ويحاور، وتتلقف إبداعاته دور النشر وتزين أفكاره صفحات إصدارات عصره الصحفية والثقافية، وذلك ببساطة لأنه موجود، وهو ما يؤكده الكاتب الكبير «يوسف إدريس» للرد على نفس السؤال: «أنا أكتب لأنى أحيا، وأستمر فى الكتابة لأنى أطمح لحياة أفضل، طالما الرغبة فى الكتابة مُلحة»، كما يؤكد الكاتب السودانى «الطيب صالح» على نفس الإجابة ويضيف: «أجدنى ميالًا إلى القول إننى أكتب طالما أنى أرغب فعلًا وأبدًا بأن أصبح كاتبًا، فأنا أنتمى لثقافة ممارسة واحترام الكتابة فى تقاليدها».. والكتابة ليست ورطة كما وصفها الشاعر محمود درويش عندما قال «ربما لأننى متورط فى الكتابة بإيقاع لم يسمح لى بالتساؤل عن جدوى الكتابة.. أحيانًا أكتب لألعب.. لكن لماذا أكتب.. ربما لأنه لم تعد لى هواية أخرى.. لم تعد لى محبة أخرى وحرية أخرى ولا وطن آخر».. 
ولكن على جانب ما يخص الكتابة الصحفية، فهناك الكثير من الأدوار والمهام والمسئوليات المهنية الدورية المنوط قيامها بها، والتواصل مع المتلقى طالب الخبر والمعلومة والتحليل والقراءة لأحداث الواقع..
وعليه، تقع مسئولية الالتزام بالقيم الأخلاقية كضرورة حاكمة وضابطة للأداء المهنى الصحفى لخطورة تبعات إخفاق المؤسسات الصحفية فى الانحياز الحقيقى لمصالح المواطن وأمن ورخاء وتقدم الوطن.
يحكى الفنان حجازى رسام الكاريكاتير العظيم الراحل: اشتغلت مرة 3 أشهر فى «الأخبار»... وفى يوم فوجئت بمصطفى أمين ينادينى.. وقبل أن أخطو إلى المكتب سمعته يضحك بصوت عال.. نظرت إليه فوجدته غارقًا فى ضحك متواصل.. ابتسمت، قال لى ضاحكًا: «إيه رأيك ترسم جمل.. وفوقه (السياسى العربى فلان) ونكتب تحتها تعليق: خيبة الأمل راكبة جمل، كنا وقتها فى أزمة سياسية مع ذلك السياسى العربى.. المهم استمر مصطفى أمين فى ضحك اهتز معه وكاد يستلقى على ظهره.. ضحكت أكثر.. وخرجت من مكتبه وهو ينتظر أن أعود الى مكتبه بالرسمة.. لكننى خرجت من مكتبه إلى الأسانسير.. إلى الشارع ولم أرجع الى «أخبار اليوم» تاني..
حجازى.. يوضح ويضيف: «.. رغم هذا مصطفى أمين كان راجل ظريف.. موهوب.. يمكن أن تختلف معه.. وكان هو متعود وقتها على أن ينفذ الرسام فكرته.. وكان نجم هذه المرحلة فى «الأخبار» الرسام الأرمنى اللامع «صاروخان»، لم يكن يعرف العربية، وكان يمكن أن يطلب منه مثلًا أن يرسم سفينة فى بحر متلاطم الأمواج ويكتب على البحر.. القومية العربية.. وعلى السفينة.. بريطانيا.. وهكذا..» 
تلعب الصحافة أيضًا دورًا ثنائيًّا بين الجمهور وواضعى الخطط والسياسات، فمن جهة، تنقل الصحافة إلى المواطنين معلومات حول ما يحدث فى المجتمع، ومن الجهة الأخرى، تتيح لواضعى السياسات معرفة الآثار الناجمة عن تطبيق تلك القرارات التى اتخذوها سابقًا، كما تُمكن الصحافة واضعى السياسات من معرفة ما يتوقعه ويريده الجمهور منهم.
أخيرًا إذا كان لنا أن نبث همسات عتاب لحملة الأقلام وصناع الرأى العام، فلتكن دعوة للتذكير بالواجب الذى يجب أن يتحلى به قلم الصحفى وعدسته، وتنشيط لضمير حجبت عنه الرؤية أحيانًا، فراح يتخبط بين وازع للحق يناديه ووازع للإثارة ولفت الأنظار يستدعى أدواته.
وتبقى دومًا التحية واجبة لمن يحملون شرف ومسئولية الكلمة والفكر المستنير والمعلومة الصحيحة والحقيقة الكاشفة والمرشدة فى مسيرة وبناء الوطن، فى ظل ما يمر بهذا الوطن من مواجهات لتحديات لايخفى أمرها على أحد بضمير مهنى وتوجه تنويرى.