رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دعانى لبيته «1»

لعلها ليلى مراد مَن رسّخت فى وجدانى أن الحج هو الذهاب للنبى الغالى «يا رايحين للنبى الغالى، هنيالكم وعقبالى».. 

ولعلها الذائقة الشعبية التى جعلت اليمين القاطعة لمن أدى فريضة الحج، القسم بزيارة الحبيب: «وحياة من وضعت إيدى على شباكه».. 

ورغم احتفالية يوم عرفة وخطبته المقدسة، حتى إننا نكاد لا نعرف من الحج غير أن الحج عرفة- فإن زيارة المصطفى ظلت هى العلامة والدليل فى الوجدان الشعبى على الحج. 

بهذه الوشائج التى ترتبط بأبى الزهراء الذى نتباهى بأن بيننا وبينه صلة ورحمًا، والتى جعلت أعظم إكرامنا لمن نستضيف فى بيوتنا أن نحييه بقولنا: «ده إحنا زارنا النبى»، ولا نبى حين نذكرها معرفة سوى من نرجو شفاعته، وأن نشرب من يده الشريفة- وبهذه الروح التى قد لا يستشعرها إلا المصريون، يكون الحرص على زيارة المدينة، فلا حج دون الصلاة والسلام على النبى فى مسجده ومدينته المنورة، بل إن من المصريين من يعتبر أن القدوم إلى المملكة العربية السعودية دون زيارة الرسول من علامة سوء الأدب، وفساد الذوق. 

وقد احتجت من العمر خمسة وأربعين عامًا، حتى أضبط زاوية الرؤية، أطابق تخيلاتى مع حقيقة الدين، فأعرف أن أعمال الحج تبدأ فى اليوم الثامن من ذى الحجة وهو يوم التروية وبعدها يوم التاسع الوقوف بعرفة ويوم العيد هو يوم النحر، وأن أيام الحج تنتهى مع اليوم الرابع لعيد الأضحى.

وأن زيارة النبى ليست فرضًا أو سنة، لكننا بسند المحبة مَن جعلنا زيارة النبى والصلاة والسلام عليه فى مسجده ركنًا من أركان الحج، لا يكتمل حجنا إلا به.

كل المدن تنسب لشىء، لكن المدينة لا تحتاج لنسب، فلا مدينة إلا مدينة رسول الله، وفى صفاتها يتجلى جوهرها، فهى المنورة الطاهرة الطيبة، كلها صفات فيها من الحنو والخير والمعانى الرقراقة، ما يجعلنا مدينيى الهوى.

بذلت طيبة نفسها للنبى، أحبته قبل أن يعرفها، خطبت وده، وآمن به أهلها وعاهدوه على نصرته ودعوه للإقامة بين ظهرانيها، وقد حفظ صاحب الخلق العظيم لأرضها طيب المبادرة والمأوى والسكن فقال لأهلها بعد أن دانت له مكة، وقد خشوا أن يعود لموطن ميلاده فطمأنهم وجبر خاطرهم وقال لهم: «أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاءِ وَالإِبِلِ، وَتَذْهَبُونَ برَسولِ اللهِ إلى رِحَالِكُمْ؟»..

نحن نحب المدينة، ونعظم مكة، والفرق بين المحبة والتعظيم كبير. 

فى مكة ولد النبى وتربى ونشأ، فهى وطنه التى قال عنها: «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أَنِّى أخرجت مِنْكِ مَا خَرَجْتُ».

فمكة هى المكرمة المعظمة المقدسة، كل الصفات ممنوحة لها، فليس حميد الصفات من صفة فى ذاتها، ولكن لأنها مختارة، مكة هى دليل القدرة المطلقة أن ربك إذا أراد فلا راد لقضائه، لا يوجد فى مكة ما يغريك أو يستميلك، هى وادٍ غير ذى زرع، جبالها الصلدة الرمادية، مناخها الحار، لا ظل ولا ظليل، لكن الله أراد لها أن تكون، فكانت وستكون دومًا المكرمة والمقدسة والمعظمة، مكة شرك اختبار.. مر به إبراهيم الخليل: «ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم»، ونجحت فيه هاجر المصرية، محنة تحولت على يد المصرية إلى منحة وهى تسأل زوجها وقد تركها وابنها: «يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادى الذى ليس فيه إنس ولا شىء؟ قالت له ذلك مرارًا، وهو لا يلتفت إليها. فقالت له: آالله الذى أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا». 

فاز إبراهيم بالتسليم، وفازت هاجر باليقين.

كل مناسك الحج تقديس وتعظيم، وتأكيد لشعيرة لها غرض عبادى: الطواف، رمى الجمرات، السعى بين الصفا والمروة إعلاء وتعظيم لفعل إنسانى، دافعه الرحمة ومحفزه أمومة ملتاعة أمام صراخ طفل جائع، السعى بين الصفا والمروة تمجيد للروح الإنسانية، للرحمة، لبذل النفس من أجل الآخرين.

يقول الرواة الفقهاء، توجد فى المسعى مسافة بين علامتين يستحب فيهما الهرولة للحجاج، ويقولون إنه ليس على النساء هرولة، من أجل المحافظة على وقارهن، يا الله! وماذا كانت تفعل هاجر، هل كانت تمشى الهوينى؟ أما هى هرولة المستغيث المستجير من جبل لجبل، من ضعفها وقلة حيلتها إلى حول الله وقوته، فأكبر الله صنيعها من فوق سبع سماوات، وجعل من سعيها وهرولتها شعيرة، فكيف يحظرون على بناتها تقليدها والسير على هداها؟! 

وللمشاهدات بقية..