رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حلم أرض التعاسة

أحمد الصادق
أحمد الصادق

«أنا مبسوط يا دكتور.. مبسوط جدًا، مش عارف أعمل إيه! حياتى حلوة، وعيشتى كويسة، ومفيش حاجة ناقصانى.. نِفسى أتضايق، نِفسى أتخنِق، نِفسى أزعل يوم واحد بس، مش قادر أستحمل، نفسى أطلع من حالة السعادة اللى أنا فيها دى! ساعدنى يا دكتور! إدينى أى حاجة تجيب لى قلق أو توتر.. نِفسى أكتئب وأنتحر زى كل الناس ما بتنتحر، نفسى أنتحر يا دكتور.. نفسى أنتحر!».

كان المريض يبكى بحُرقة وهو يشكو سعادته إلى الطبيب، فلم تكن هذه هى جلسته الأولى معه، بل مرَّت سنوات وهو على هذه الحال، سعيد جدًا، لا يؤرق باله أى شىء، ناجح، متزوج ولديه أولاد، ذلك بعد أن وقع فى شَرَك الحُب، حينها ذهب إلى العيادة وهو فى قمة الانهيار صارخًا «أنا حبيت يا دكتور!».

يشاركه أهله نفس سعادته، وهم من القلائل فى المدينة الذين كوَّنوا أسرة.. يعرف أهل الحى أنه من المحظور الاختلاط بهم، لأنهم عِشَرِيُّون جدًا، ولديهم ميل غير طبيعى لتكوين الصداقات، وهو أمر مُنذر، يجلب لصاحبه السعادة، وإن أصابت السعادة أحدهم فربما أودت به إلى عيش حياة كريمة، خالية من مُنغِّصات الحياة، بل وأكثر من ذلك، يموت فى النهاية عند أرذل العمر، ميْتةً طبيعية على الفراش.

عاش المريض حياة هانئة؛ فى صغره كان أبوه يحبه، يجلب له الألعاب، ويلعب معه، فكانت تقر عينه فرحًا كل يوم، واعتاد اللعب مع أخته الكبيرة، لكنها كانت متمردة، إذ انزوت فجأةً، وانطوت، وحرمت نفسها من كل ملذَّات الحياة، الأمر الذى جعلها تنتحر فى سنٍّ مبكرة، وسط فرحة عارمة انتابت العائلة.

حلم الانتحار طالما كان يؤرق المريض، فأينما ذهب وجد أحد معارفه منتحرًا فى العمل، أو فى النادى، أو فى الحى، فيُمَنِّى نفسَه فى كل مرة أن يصل إلى مرحلة الكمال التى وصلوا إليها، فالانتحار هو سقف التعاسة الذى يتمنَّى أى شخص الصعود إليه، لكنه ليس هينًا، إذ يتوجَّب على المريض أداء طقوس نفسية مُعيَّنة يُمليها عليه الطبيب، كى يصل إلى حالة النيرفانا السلبية، ويتعكَّر مزاجه.. كأن يسير وحده دون هدف، ينزوى فى مكان مغلق يدخِّن السجائر بشراهة، يستمع يوميًا إلى أغانٍ كئيبة، يفتعل مُشاجرة مع أفراد عائلته، يحاول أن يكون سلبيًا ومكروهًا، لا يهتم بنفسه ولا بمظهره، يعامل المقربين بسوء كى يصبح منبوذًا، يقوم بفعل أى شىء يرفضه عقله، يؤنِّب نفسَه ويعذبها، يقطع علاقته بالجميع، يشاهد أفلامًا مرعبة ومملة بكثرة، يقف وسط الميدان فى شدة الحر مرتديًا الصوف، يقرأ أخبار الحوادث والحروب، يمتنع عن صرف مُرتَّبه، يستقيل من العمل، يتسوَّل، يرتكب جريمة صغيرة فيُسجن، يسرق، يكذب، لا يبالى، يدمن المخدرات، يقامر، يجلد ذاته، يفقأ عينيه، يخصى نفسه.

بالطبع لم يستطع المريض أن يفعل أى شىء من تلك الطقوس، سوى مرة افتعل شِجارًا مع أبيه، لكنه صالحه فى اليوم التالى، ومرةً أخرى وضع كل نقوده فى القمار، فكسب أموالًا أكثر، فتحسَّر قلبه فرحًا.

ينهره الطبيب لأنه هو المسئول عن سعادته، فهو يوهم نفسه بأن كل شىء فى الحياة جميل، ووردى.. ينصحه بأن ينظر إلى الحياة بعين متشائمة، فيحكى له عن معاناة الحياة، والهدف الأسمى منها وهو الانتحار، فالحياة عبارة عن حالة عامة من اللا جدوى، العدمية أساسها، والعبث أصلها.. يذكِّره بأنه جاء إلى الدنيا دون اختيار، وأنه سيموت، وسيؤول كل شىء فى الحياة إلى اللا شىء، وبالتالى فليس هناك معنى للحياة، ومن هنا فلا بُد أن يفكر الإنسان الطبيعى فى الانتحار.

«بس بحب حاجات كتير يا دكتور.. أنا مالى؟ أكرهها إزاى؟ بحب المزيكا، والقراءة، والناس، وعيالى، والشغل، والبحر، والخمرة، والنسوان، واللعب.. بحب التجديد، ومُنفتح على الحياة.. أنا نِفسى أبقى تعيس، بس مش قادر.. قل لى أعمل إيه يا دكتور، أنا بقالى أكتر من عشر سنين معاك.. طيب إنت ليه ما انتحرتش لغاية دلوقتى؟»

يجيبه الطبيب: «مافيش حد بعيد عن الاضطراب النفسى»، فالطبيب نفسه يعانى من مشكلة، إذ إنه يحب عمله هو أيضًا، ويتمنَّى أن يجد مرضاه فى حالة اكتئاب حاد، وإن انتحر أحدهم فسيكون فى قمة سعادته، ولهذا فهناك مفارقة، فكلما انتحر مريض له، سعدَ لانتحاره، وانتظر آخرين كى يمتثلوا للعلاج، ولهذا فهو لن ينتحر فى أغلب الظن.

«ده أنا اللى مصبرنى والله يا دكتور شوية الأخبار اللى زى الزفت اللى بنسمعها كل يوم والتانى، يعنى أنا فاكر يوم تعويم الجنيه ده، أنا اتضايقت، ده غير طبعًا غلاء الأسعار، ويوم ما خسرنا فى كاس العالم، يااااه، كانت من أتعس أيام حياتى».

يقول المريض الجُملة الأخيرة بوجهٍ باسمٍ، متمنيًا أن يعيد الله عليه تلك اللحظات التعيسة، فينصحه الدكتور بأن يقوم بشحذ ذهنه تجاه تلك الأخبار، والأفكار السوداوية، حتى يتمكن من اصطيادها، فهذا كفيل بأن يقبض قلبه. 

ذات ليلة حاول المريض الانتحار، كان ممسكًا بسكين حادة، يستعد لقطع شريانه بيده، وقبل أن يفعلها، سمع زوجته تناديه من المطبخ: «عملت لك النهارده محشى البصل اللى كان نفسك فيه من زمان»، حينها تراجع، وقال لنفسه إنه سيأكل محشى البصل أولًا، ثم يذهب لينتحر، ولكن المحشى اجتر من ورائه ملذات الحياة، واحدة، تلو الأخرى... 

يسأله الطبيب ما الدافع؟ لماذا يفكر فى الحياة بروح متفائلة؟ لماذا لا يجتهد مرةً أن يقطع علاقته بأصدقائه؟ لماذا لا يخبرهم بأن ذلك فى مصلحة الجميع؟ كلنا نريد التعاسة، فلماذا نُصر على فعل أشياء تجلب لنا الفرح؟

«مش عارف والله يا دكتور، يعنى، أنا بحب أصحابى، وهم كمان بيحبونى، وهم مش كتير قوى يعنى الحمد لله، بس من كام شهر خسرت واحد فيهم، ساعتها حصلت لى تَرْبَنَة فى دماغى، ما عرفتش أزعل عليه؟ ولا أفرح إنى خسرته؟! اليوم ده مش هنساه أبدًا».

لم يكن المريض يعلم حينها هل يسير على الطريق الصحيح، أم أنه أُصيب بلذة الفرح، يحب أن يكون سعيدًا، فيسعى إلى فعل كل الأشياء التى تجلب له السعادة، ويعيش اللحظة منتشيًا بمرور الوقت، سكرانًا بحلاوة الدنيا وملذاتها؟

يعلم الطبيب أن المريض يُعانى من سعادة حادَّة، وصلت به حد الإدمان، فهو لا يستطيع الامتثال للعلاج، لأنه يحب كونه سعيدًا، ويبحث عن أى شىء يُبعده عن الحزن، ولهذا، عرض عليه أن يدخل المستشفى النفسى، فهذا المريض يحب الحياة حبًا جمًا، وهذه داهية، ما لها من واهية.

«مستشفى تانى؟! أبدًا! على جثتى!».

دخل المريض ذات مرة المستشفى النفسى، كان يومه يمر بعدد من الطقوس التى من شأنها أن تُعيد تأهيله نفسيًا، فيصبح حزينًا تعيسًا متوحّدًا، وسويًا نفسيًا.. يستيقظ المريض كل يوم فى الثانية ظهرًا، ليتم حبسه فى زنزانة ضيقة لسِتّ ساعات، تُقدَّم خلالها وجبة الغداء، ثم يصطحبونه إلى غرفة قاتمة بها شاشة عرض، يربطونه فى كرسى، ويفتحون عينيه بالإجبار، ليشاهد فيلمًا طويلًا لأربع ساعات يقوم بغسل مخه، وفى منتصف الليل يأخذ جرعة الاكتئاب والتوتر، فيُصاب بعدة نوبات من الذُّعر والقلق، ثم يدخل زنزانته مرةً أخرى مع وجبة العشاء، سيئة المذاق، وفى ظل توتره وقلقه يظل يصرخ، ويفرك، ويضرب رأسه بالحائط، حتى ينام، وهكذا.. لمدة ستة أشهر.

خرج المريض بعدها فى حالة من الضياع، عاش مدةً لا بأس بها فى اكتئاب عارم، لكن شخصيته الضعيفة جعلته يفكر فى حياته مرةً أخرى، رويدًا رويدًا، حتى أُصيب بالسعادة، وكأن شيئًا لم يحدث.

«إنت عارف يا دكتور إن بلدنا دى مُصنَّفة ضمن أسعد عشر دول فى العالم، يعنى مش غريب عليا إنى أكون سعيد فيها، مش كدا ولا إيه؟ ثانية موبايلى بيرن.. ممكن أرد؟».

إنها أمه، تُخبره بأن أباه انتحر «عقبالك يا حبيبى».. تغمر السعادة المريض: «أبويا انتحر.. ده أسعد خبر جالى فى حياتى!»، ثم يبكى سعادته استعدادًا للرحيل، ليحضر مراسم الدفن، وحفل تأبين أبيه.

يقوم بدفن أبيه هو وعدد قليل من أفراد وأصدقاء العائلة، بصحبة فرقة غنائية وزغاريد وطبل وزمر.. وفى الليل، بعد أن تراصَّت المقاعد الخاوية، وانتهى الناس من حفلهم، جلس المريض وحده يتأمل فى اللا شىء، يفكر فى موت أبيه، فأخذت ذاكرته تسترجع كل اللحظات السعيدة التى جمعتهما، فوجد نفسه حزينًا لفقدانه، فقد كان وجوده مؤثرًا فى حياته، ولما وجد نفسه حزينًا، فرح بذلك، ولما أصابه الحزن بالسعادة، وأصابته السعادة بالحزن، وقع فى دوامة لا نهائية بين النقيضين، لم يستطع أن ينتشل نفسه منها، ثم أصابه الجنون، ومات بالسكتة الدماغية.